هل تذهب «إسرائيل» إلى العملية البرية؟
} العميد د. أمين محمد حطيط*
أدخلت عملية “طوفان الأقصى” “إسرائيل” عامة، وقيادتها بشكل خاص، في حال من اختلال التوازن أفقدتها القدرة على استيعاب ما حصل، وبالتالي منعتها من اتخاذ القرار المناسب للردّ على أكبر صفعة أو ركلة تلقتها منذ 75 عاماً، أيّ منذ تاريخ اغتصابها لفلسطين، وما ان بدأت تستفيق من ذهولها حتى أمرت قيادتها بتنفيذ جرائم حرب وإبادة جماعية في غزة، معلنة أنها تساوي بين حركة حماس المسؤولة عن تنفيذ عملية “طوفان الأقصى” وبين تنظيم الدولة المسمّى “داعش” والمصنّف إرهابياً، وبالتالي كما أنّ داعش تمّ اجتثاثه فإنّ “إسرائيل” ترى أنه يجب اجتثاث حماس كلياً عقاباً لها على ما أنزلت بالجيش الإسرائيلي من هزيمة نجمت عن عملية “طوفان الأقصى”.
إذن بعد أن بدأت “إسرائيل” الاستفاقة من حال الصدمة والذهول أعلنت على لسان مسؤوليها وبمواقف سياسية وإعلامية متعدّدة انها بصدد إعادة الاعتبار لجيشها عبر تدمير الجهة التي أذلته تدميراً كلياً كما أعلن هذا المسؤول الإسرائيلي او ذاك، لكن أحداً منهم لم يحدّد المسار العسكري الذي ستتخذه “إسرائيل” تنفيذاً لرغبتها او نيّتها باجتثاث حماس ووضع حدّ للتهديد الصادر عن قطاع غزة.
بيد أنّ “إسرائيل” وقبل ان تتخذ القرار الرسمي التنفيذي النهائي حيال المهمة التي ادّعت انها بصدد تنفيذها وجدت نفسها ملزمة بدرس الخيارات والمعطيات وتحليل الإمكانات والمخاطر والمفاضلة السياسية والعسكرية بين السيناريوات المحتملة والمناسبة لتنفيذ المطلوب. وهنا وبكلّ خفة واستخفاف رأت انّ افضل حلّ للمأزق وعقاب للمقاومة، يكمن في تهجير سكان القطاع او قتلهم انْ رفضوا ثم احتلال القطاع ووضعه تحت انتداب الأمم المتحدة منزوع السلاح. وبخفة أيضاً وضعت “إسرائيل” مع أميركا مشروعاً أولياً للتهجير تولى اليهودي بلينكن المسمّى وزيراً للخارجية في الولايات المتحدة الأميركية، تسويقه لدى الدول العربية التي يعتبرها تابعة وشريكة لأميركا في سياستها الإقليمية.
اما سيناريوات التنفيذ فكانت وفق النظر الإسرائيلي ثلاثة:
ـ أولها العملية البرية التي تقود الى احتلال كامل القطاع بمساحته الكلية 365 كلم2 ما يمكّن الجيش الإسرائيلي بعد نجاحه في تحقيق الاحتلال، من اقتلاع المقاومة منه.
ـ أما الثاني فيكون تطبيقاً لعقيدة الضاحية التدميرية او الأرض المحروقة التي لا تستوجب عملاً برياً إنما يُكتفى فيها بالقصف التدميري العنيف حتى يدمّر القطاع كلياً وتنتهي فيه المقاومة مع السكان الذين يرفضون النزوح ويتشبّثون بأرضهم وبيوتهم.
ـ يبقى الخيار او السيناريو الثالث وهو عمل مركب من ميدان وسياسة وإعلام وحرب نفسية ينفذ عبر القصف الانتقائي والعمل البري التحرّشي المحدود والحصار الاقتصادي الخانق الذي من شأنه كسر إرادة الصمود، وإرادة القتال لدى الفلسطينيين.
وفي سياق جسّ النبض والدرس والتحليل من أجل القيام بالمفاضلة والاختيار، اصطدمت أميركا ومعها “إسرائيل” برفض فلسطيني وإقليمي عارم للتهجير القسري وإفراغ القطاع من سكانه، رفضاً أتى حتى من الدول العربية التي تعتبر حكوماتها أدوات أميركية، ما اضطر بلينكن لسحب المشروع أولاً ثم اضطر الإدارة الأميركية الى تعيين مبعوث خاص إلى الشرق الأوسط أناطت به مهمة معالجة القضايا الإنسانية والإغاثية ما يعني التراجع ظاهرياً عن استخدام جرائم الإبادة الجماعية وقتل سكان القطاع جوعاً وعطشاً وحرماناً من الدواء والعلاج الطبي من أجل الأغراض العسكرية.
أما من حيث المفاضلة بين سيناريوات التنفيذ الثلاثة فإنّ “إسرائيل” كما يبدو أدركت أنها كلها بحاجة الى وقت من عدة أسابيع قد تصل الى 8 أو أكثر. ومن الوجهة الموضوعية فإنّ السيناريو الاول أيّ العملية البرية هو الطريق الأسرع والأنجع لتحقيق أهدافها وإعادة الاعتبار لجيشها ومعالجة الجانب المعنوي المدمّر في النفس العسكرية الإسرائيلية، ولذلك كان ميل أوّلي كما يبدو إلى اعتماد هذا الحلّ، لكن الرغبة شيء والقدرة على التنفيذ شيء آخر، حيث إنّ العوائق التي تحول دون نجاح “إسرائيل” في هذا المسار ليست من الطبيعة التي تسهل معالجتها أو تخطيها ويكفي ان نذكر منها:
*الوضع المعنوي للعسكري الإسرائيلي المتردّي والمُنهار على صعيد كافة الرتب. ويكفي هنا ان نذكر بما أذاعته القناة 10 الاسرائيلية التي أوردت “أنباء عن هروب جماعي بين صفوف الجنود ورفضهم المشاركة في الحرب وخلافات بين القادة وانسحابات من كبار الضباط والمسؤولين”. كما نذكر أنّ 70% من العسكريين في غلاف غزة ألقوا السلاح ولم يقاوموا واستسلموا أو فرّوا أمام مقاتلي المقاومة. وهنا نذكر بأنّ العمليات الهجومية تستلزم حتما معنويات عالية وإرادة قتال فولاذية، والجيش المنهار معنوياً لا يهاجم.
*الوضع العسكري والدفاعي للمقاومة في غزة، وهنا غني عن البيان انّ المقاومة أنجزت خطتها الدفاعية المحكمة قبل أن تضع موضع التنفيذ خطتها الهجومية التي حققت هذه النتائج الباهرة. ومن المؤكد أنّ المقاومة أعدّت القطاع بشكل يمكّنها من تحويله الى مقابر مفتوحة لدفن الجيش المهاجم. وهنا نذكر بالعجز الإسرائيلي عن استكمال اقتحام مخيم جنين ذي المساحة التي لا تتجاوز الـ 2 كلم2 واضطراره لصرف النظر عن المهمة والانسحاب.
*الخشية من توسّع الصراع وفتح جبهات جديدة خاصة بتدخل المقاومة من لبنان، فيما «إسرائيل» لا تقوى او لم تعدّ جيشها للعمل على أكثر من جبهة، وهنا ورغم كلّ المساعي الأميركية لضمان عدم فتح جبهة لبنان، فإنّ قيادة المقاومة في لبنان كانت صريحة وواضحة بأنها ليست على الحياد وأنها تدرس الموقف لحظة بلحظة وستتخذ القرار المناسب عندما تخترق «إسرائيل» الخطوط الحمر التي وضعتها المقاومة، واجتياح القطاع والسعي الى تدمير المقاومة فيه هو من الخطوط الحمر. مع العلم أنّ المقاومة ترى انّ التدخل في الميدان هنا هو نوع من العمل الاستباقي للدفاع المشروع عن النفس والوطن.
هذه الوقائع والحقائق وغيرها مما لا نجد ضرورة لذكره منعت “إسرائيل” حتى الآن ورغم مضيّ 10 أيام على انطلاق عملية “طوفان الأقصى” من اتخاذ القرار بالعملية البرية التي تراها علاجاً لواقعها السيّئ، ولذلك اتجهت أولاً الى التأخير متذرّعة بذرائع شتى منها الطقس ومنها الحاجة الى وقت إضافي لحسن الإعداد والتحضير الخ… ولكن حقيقة سبب التردّد والتأخير عائد الى التهيّب والخوف من العملية البرية، خاصة أنّ بايدن قالها وضوحاً وعلانية “انّ من الخطأ ان تدخل “إسرائيل” الى القطاع وتعيد احتلاله”، وهو لا يقول ذلك إلا من اجل مساعدة “إسرائيل” على عدم الدخول في مأزق إضافي قاتل.
أمام هذا المشهد يبدو أن القيادة الإسرائيلية بدأت تجري المفاضلة بين صيغ هذه العملية وهي ثلاث: الأولى الاجتياح الشامل لكامل 365 كلم2، والثاني الاجتياح المحدود والمنفذ على عدة محاور بحيث لا يتعدّى الـ 3 كلم، وأخيراً التحرش السطحي في مواطن منتقاة بحيث لا يتجاوز الدخول الكلومتر الواحد.
وبالتحليل نجد انّ الصيغتين الثالثة والثانية تفرغان الاجتياح من محتواه، ولكنها تبقى أقلّ خطراً والأقلّ خسارة أما الأولى فإنها ترعب «إسرائيل» في المستوى العسكري والسياسي على السواء، ولذلك حدث الانقسام الإسرائيلي الحادّ حولها وأعاق القرار بها واستمرت «إسرائيل» بتجنب الحرب والمواجهة في الميدان مقتربة من مضامين السيناريو الثاني والثالث، ومكتفية بارتكاب جرائم الحرب والإبادة الجماعية عبر قصف تدميري وحصار إجرامي لقطاع غزة في مقابل تماسك المقاومة ونجاحها بالمحافظة على منظومة القيادة والسيطرة والقدرات النارية والقتالية الفعالة لديها، مدعومة من شعب جبار يتشبّث بأرضه ولا يقبل عنها بديلاً، إنها مواجهة لا أعتقد انّ حظوظ «إسرائيل» فيها مرتفعة لتحقيق مكاسب يعوّل عليها رغم ما تتجه إليه من إطالة أمد الحرب.
*أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي