هل تستطيع واشنطن تغيير اتجاه تسونامي «طوفان الأقصى»؟
} د. حسن أحمد حسن*
تصبح الكلمات بلا معنى عندما يعجز مجلس الأمن الدولي عن تبني مشروع قرار أممي يدعو إلى حل الأزمة الإنسانية في غزة التي وصلت مستوى كارثة أخلاقية وإنسانية وقيمية يندى لها جبين الإنسانية جراء نزعة القتل والاستمتاع بشرب الدماء والرقص على جماجم الأبرياء، وما رافقها وينتج عنها من مظاهر وجرائم تعبّر عن العقلية العنصرية المتوحّشة التي تسيطر على حكام تل أبيب، وهم يطلقون العنان لآلة القتل والفتك والتدمير والإبادة الإسرائيلية لتحصد أرواح الفلسطينيين بلا حسيب ورقيب، بل بصمت وتشجيع ممن يسوّقون أنفسهم بأنهم حماة الديمقراطية والمدافعون عن حقوق الإنسان وحريته وكرامته، وقبل هذا وذاك الحريصون على حق الحياة لجميع البشر، ويبدو أن حقّ الحياة لا يشمل من تصنّفهم العنصرية المقيتة لوزير الحرب الكيان الغاصب بـ «الحيوانات البشرية». وهذا يطرح الكثير من تساؤلات الاستفهام الإنكاري بعد أن خلَّفت الوحشية الإسرائيلية على سكان قطاع غزة المحاصر ما يقارب ثلاثة آلاف شهيد واثني عشر ألف جريح منهم 64% من النساء والأطفال الذين قتلتهم وشوّهت معالمهم نيران كيان يصفه الغرب الأطلسي بأنه واحة الديمقراطية والحضارة في صحراء قاحلة تعجّ بالتخلف وغياب الديمقراطية المتوهّمة التي يبشر بها ذاك الغرب ويريد فرضها على الكون برمّته. مع التشديد على تذكير الشعوب والدول بأنّ الديمقراطية الغربية تُحَظّرُ التنفس بحرية على كلّ من لا يوافق صنّاعها ومروّجيها ويذعن لمشيئتهم. وفي الوقت نفسه تبيح للغرب الأطلسي المجرم، ومن يستظلّ بفيئه القتل والقهر والعسف والدمار والخراب الحتمي لكلّ من يظهر أيّ امتعاض من ركوب ظهره ولسعه بالسياط من قبل «الصفوة» الذين لا يرون في المليارات من البشر الأحياء إلا العبء الذي يجب التخلص من أكبر عدد منه، ورهن من يتبقون لخدمة المليار الذهبي وفق ما يتضمّنه المعيار الأنكلوساكسوني المتخوّف من تراخي قبضته، وانحسار هيمنته على العالم جراء عدوانيته التي بلغت حدوداً لم يعد ممكناً التعايش مع مفرزاتها النتنة والبغيضة.
هكذا وبدون أيّ حساب لما تبقى من أدنى احترام للقانون الدولي والإنساني وميثاق هيئة الأمم المتحدة تصوت كلّ من: الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا واليابان ضدّ مشروع القرار الروسي الخاص بالوضع الإنساني الكارثي في غزة الجريحة الصامدة التي لا ذنب لها إلا أنها تريد الحياة بكرامة وترفض التخلي عن الحقوق الفلسطينية التي أقرّها المجتمع الدولي، ونصّت عليها قراراته المتعدّدة التي وضعتها الحكومات الإسرائيلية على الرفّ حتى علاها الغبار والعفن، ولا تتوانى تلك الحكومات المتعاقبة عن القذف بالقرارات التي تساند الحق الفلسطيني إلى سلة القاذورات التي يطيب لحكام تل أبيب إعادة نثر محتوياتها في وجه المجتمع الدولي وقيمه، بل ولا يتردّدون عن رمي بعض محتوياتها في وجه مؤسسات المنظمة الدولية ذات الصلة بعد حصر هامش تحرّك المسؤولين في تلك المؤسسات على اختلاف مستوياتهم بحقّ التعبير عن القلق، وأحياناً الانزعاج شريطة استخدام الكلمات التي لا تجرح خيلاء اليانكي الأميركي، ولقيطه المدلل المزروع عنوة على أرض فلسطين المحتلة.
استخدام حقّ النقض «الفيتو» من ثلاثة أعضاء دائمين في مجلس الأمن الدولي يؤكد أنّ الغرب الأطلسي بزعامة واشنطن لا يقيم وزناً للقيَم الإنسانية، وأعراف المجتمع الدولي، ولا يعنيه موت الآلاف من الأبرياء، وتحويل حياة شعوب إلى جحيم، وتسوية دول بالأرض، وهذا يضع بيد إدارة بايدن الكثير من الأوراق المساعدة على مصادرة أيّ انتصار لأيّ طرف في المحور الذي لا يذعن لمشيئتها، ولن تتوانى ـ إذا استطاعت إلى ذلك سبيلا ـ عن محاولات تغيير دفة الأحداث بما يضمن إعادة اتجاه تسونامي «طوفان الأقصى» وتجييره لخدمة مصالحها، وفي الصدارة منها مناصرة الباطل الإسرائيلي، واستخدام ما قد يفرزه ذلك من نتائج لتعزيز نزعة العدوانية والإجرام لدى حكام تل أبيب المطمئنين إلى أنّ البوارج الأطلسية التي تمّ استحضارها إلى شرق المتوسط قادرة على امتصاص الموجات الارتدادية لطوفان الأقصى الذي أنجزته غزة، وقد لا يكون غائباً عن الذهن وخريطة العمليات مشروع مسح قطاع غزة عن الأرض، ووأد من بقي فيه من الفلسطينيين أحياء من دون أن يرفّ جفن لبلاد العمّ سام وأتباعها بمختلف مسمّياتهم، وإلا كيف يمكن فهم أن يبقى وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن لساعات مع كلّ أعضاء الكابينت الأمني السياسي المقلص الذين اجتمعوا في غرفة محصّنة في تل أبيب، في مبنى وزارة الأمن؟
هذا الصلف والتدخل الأميركي المباشر كان موضع استهجان بعض الصحف الإسرائيلية للمستوى الجديد غير المسبوق في تاريخ العلاقات الدولية، وهذا يظهر إلى أيّ حدّ يشرف الأميركيون على أيّ قرار يتعلق بالتعامل مع تطوّر الأحداث وتداعياتها بعد عملية «طوفان الأقصى»، ويظهر في الوقت نفسه مدى التخبّط الإسرائيلي في الفترة الحاليّة واهتزاز ثقة الأميركيين بحكومة نتنياهو، ويقينهم أنه لا يمكن الاطمئنان إلى ما قد تتخذه من قرارات متهوّرة قد تأخذ المنطقة إلى حرب شاملة كبرى ليس لواشنطن مصلحة اليوم باندلاع ألسنة لهيبها بالتزامن مع الاستعصاء المزمن مع روسيا الاتحادية على الجغرافيا الأوكرانية، وارتفاع خطورة الاشتباك الاقتصادي والأمني مع الصين وانطلاقتها الواثقة التي تهدّد التفرّد الأميركي بالقرار الدولي.
الرؤية التحليلية الموضوعيّة لهذا التصعيد الأميركي الخطير في منطقة الشرق الأوسط تؤكد أنّ جميع السيناريوات مفتوحة وحاضرة على طاولة العمليات، وما الإعلان عن قدوم جو بايدن إلى الكيان الغاصب إلا الدليل على إخفاق وزير خارجيته في فرض الرؤية الأميركية، والتخوّف من تفلت الأمور من القبضة المصابة بتراخٍ إلزامي فرضته المتغيّرات الأخيرة، وكان لمحور المقاومة دور أساسي وفاعل في ذلك. فالطرح الإسرائيلي مرفوع السقف المطالب بتهجير سكان غزة والقضاء التام على حركتي حماس والجهاد الإسلامي مرفوض تحت أية ذريعة، وإمكانية تنفيذه شبه منتفاة، وبقاء الأمور على حالتها التي ولَّدها طوفان الأقصى لا يمكن للأميركي ابتلاع مرارتها، ولا التعامل مع تداعياتها على أنها أمر واقع غير قابل للمصادرة، كما أنه لا يُعقل أن تقبل أطراف محور المقاومة بالسكوت عن استمرار القصف الإبادي الإسرائيلي وهمجية استهداف كلّ مظاهر الحياة في غزة بوحشية لم تعرفها البشرية على امتداد تاريخها الطويل، ويبدو أن مطبخ الساسة الأميركية ارتأى أن التعامل مع هذا العجز المركب والمتشظي على جانبي حلبة الاشتباك يتطلب رفع السقف أكثر، إلى درجة لا يستطيع بلينكن الوصول إليها، وهذا يتطلب حضور الرئيس الأميركي شخصياً حتى من دون دعوة لإظهار أشدّ صور الحزم الأميركي وتخويف الأتباع وأصحاب الأدوار الوظيفية ممن يدورون في الفلك الأميركي أكثر، ومحاولة حشر الجميع ودفعهم لتبني أيّ طرح أميركي من دون أي تحفظات أو مراعاة للخصوصية، وبغضّ النظر عن النتائج الكارثية التي تقود إليها مثل هذه السياسة التي اعتادت تحويل انتصارات من يواجهونها إلى مكاسب تصبّ في قبعة الكاوبوي، والذاكرة القريبة ما تزال مكتظة بدخول الأميركي على الخط غداة الإنجاز الباهر الذي حققه العرب في حرب تشرين التحريرية 1973، حيث سارع الأميركي لإقامة الجسر الجوي العسكري الداعم لتل أبيب، وانتقل بعد ذلك للعمل في تحييد القوة العربية الأكبر مصر من ساحة الصراع، والذهاب بالمنطقة إلى مرحلة جديدة من النفوذ الأميركي المكرّس لحماية «إسرائيل» عبر نهج التطبيع والتتبيع الذي ابتدأ بكامب ديفيد، ويبدو أنه لم يتوقف عند حمى التطبيع وما تتضمّنه اتفاقات أبراهام ومفرزاتها المتعددة والعاجزة حتى الآن عن التبلور في الوسط الشعبي والجماهيري، مما أفقد واشنطن القدرة على تحقيق الأهداف الشريرة المرجوة، وما الوضع الخطير الذي تشهده المنطقة إلا الفيصل الذي ينتظره الجميع لحسم وجهة الصراع نحو المزيد من الانكفاء الأميركي، أم في الاتجاه المعاكس لإعادة إحكام القبضة على قلب العالم والاستثمار فيه على الجبهتين المفتوحتين عسكرياً مع موسكو على الجغرافيا الأوكرانية، واقتصادياً مع بكين لقطع الطريق على مشروع الحزام والطريق.
خلاصة
سلم الاهتمام الأميركي متعدّد الدرجات والاتجاهات، لكن المرتبة الأولى في المنطقة تبقى خاصة بالحفاظ على الكيان الإسرائيلي بوضعية الأقوى والمهيمن ورأس الحربة والقاعدة الأميركية المكلفة بالحفاظ على المصالح الأميركية في هذه المنطقة الجيوستراتيجية من العالم، وهذا ـ على خطورته ـ لا يعني التمسك بحكومة يثبت عجزها عن تنفيذ الدور المناط بها، والوصول إلى وضع العجز عن حماية الكيان ووجوده إلا بتدخل خارجي بقيادة واشنطن، وإذا نجحت إدارة بايدن في تدوير الزوايا بالتهديد والوعيد وتعطيل مجلس الأمن، وشلّ قدرة الإرادة الدولية عن أيّ فعل إيجابي يتعاطف مع الحق الفلسطيني، فقد تذهب الأمور نحو الأبعد جراء الاستفزاز الأميركي المتواصل باستعراض القوة العسكرية ودبلوماسية البوارج الحربية لتخفيف تشوّهات الصورة التي أصابت تل أبيب جراء طوفان الأقصى، ومن غير المعقول والموضوعي أن تتراجع واشنطن عما أعلنته من خطوات تصعيدية، ما لم تتحوّل خشية الأميركيين من تعرّض قواعدهم وقواتهم إلى الاستهداف المباشر ممن لم يعد يخيفهم تهديد أو وعيد، ولا ضير من مساعدة إدارة بايدن في الانتقال من واقع الخشية والمخاوف إلى حقيقة تحوّل هذه المخاوف إلى واقع يساعد أصحاب الرؤوس الحامية على حكّ جِلْدِ الرأس، والنظر إلى معالم الصورة المتشكلة في حال خروج الأمور عن السيطرة، وإعادة حكّ جلد الرأس أكثر من مرة قد تكون مثمرة لدى الجميع، سواء أكان شعر رؤوسهم المنفوخة غزيراً أم كانوا يعانون الصلع…
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية.