أسطورة غزة: ما هو أبعد من العدوان!
} د. عدنان منصور*
إنّ حرب الإبادة والتطهير العرقي، والعقاب الجماعي، والمجازر الوحشية ضدّ الإنسانية التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي، وفاقت كلّ تصوّر، ضدّ قطاع غزة، وسكانها المدنيين، لا يقتصر هدفها فقط، على إلحاق الهزيمة بالمقاومة الفلسطينية في غزة. ولو كان كذلك، لما قام جيش الإرهاب الإسرائيلي، باللجوء إلى سياسة الأرض المحروقة، التي أدّت إلى تدمير شامل لدور السكن والعبادة والمراكز الصحية، والمستشفيات، والمؤسسات التعليمية، والبنى التحتية المدنية، والضغط على شعب غزة لترحيله عن أرضه.
عقدة «إسرائيل» تظهر جلياً من خلال وجود مقاومة فلسطينية تقضّ مضاجعها على الدوام، وتحبط مشروعها الذي تسعى إليه منذ قيام دولتها المؤقتة، وهو التوسّع والإقرار بالدولة اليهودية على كامل فلسطين، وما هو أبعد من ذلك.
شهيّة التوسّع لم تغمض عيون العدو الإسرائيلي منذ عام 1948 وحتى اليوم، عن الضفة الغربية وقطاع غزة، ولبنان، وسورية، والعراق، والأردن، والسعودية ومصر، حيث سلوكه العنصريّ، وسياسة التوسّع والتطهير العرقي، والاستيلاء على الأرض، لم يتغيّر حيال فلسطين ودول المنطقة، قبل قيام الكيان المحتلّ وبعده.
ها هو مدير الصندوق القومي اليهودي يوسف ويتز
Yossef Weitz، كتب عام 1940 يقول: «فليكن واضحاً لنا، وهو أن لا مكان لشعبين في هذه البلاد. إذا ترك العرب هذا البلد يكفينا. وليس هناك من وسيلة غير ترحيلهم جميعاً. يجب أن لا نترك قرية واحدة، ولا عشيرة واحدة…
يجب أن نشرح للرئيس الأميركي روزفلت ولكلّ زعماء الدول الصديقة، بأنّ أرض «إسرائيل»، ليست صغيرة جداً إذا ما تركها العرب ورحلوا عنها، وتوسّعت حدودها قليلاً نحو الشمال على طول الليطاني، ونحو الشرق على مرتفعات الجولان».
إنّ الاندفاع باتجاه تهجير الفلسطينيين، عبّر عنه أيضاً، رئيس الكنيست الأسبق مائير كوهين، بعد حرب حزيران 1967، بقوله: «إنّ إسرائيل ارتكبت خطأ فادحاً، عندما لم تقم بطرد 200 ألف او 300 ألف عربي من الضفة الغربية».
هاجس الديموغرافيا الفلسطينية، ظلّ يقلق قادة العدو، لكون تعداد العرب على كامل تراب فلسطين لا يزال أكثر من تعداد اليهود، رغم موجات الهجرة اليهودية المستمرة إليها.
هذا الواقع دفع بـ «إسرائيل» كي تطالب السلطة الفلسطينية، بكلّ وقاحة، وقبل أيّ حلّ معها، الاعتراف بـ «إسرائيل» كدولة يهودية للشعب اليهودي. اعتراف تريد منه «إسرائيل» مستقبلاً وعلى عجل، تطبيق «قانونها اليهودي»، ومن ثم «تطهير» فلسطين من العرب، وترحيلهم إلى خارج وطنهم.
ما دام الاعتراف الرسميّ الفلسطينيّ بيهودية الدولة مستحيلاً، رأت «إسرائيل» أنه حان الوقت لتتولى المهمة بنفسها للانقضاض على الفلسطينيين، وترحيلهم قسراً من خلال إبادة جماعية ومجازر وحشية، والقضاء على مقوّمات الحياة في قطاع غزة، وبث الهلع، في صفوف الفلسطينيين، وإكراههم بالقوة على ترحيلهم عن أرضهم، مثل ما حصل مع أبناء جلدتهم أعوام 1947، و1948، و1949، قبيل قيام الكيان العنصري وأثناءه وبعده.
إنّ الترحيل القسري لشعب غزة ترى فيه «إسرائيل»، مقدمة أساسية لضمّ القطاع إليها، وفي ما بعد التوجه الى الضفة الغربية، وتفريغها من العرب، وتهجيرهم الى الأردن، ومن ثم توسيع نطاق حدودها، بقضم المزيد من الأراضي في دول المنطقة.
مقاومة شعب غزة وصموده الأسطوريّ، كفيلان بأن يحبط نهائياً أهداف «إسرائيل»، التي يقلقها جداً، العامل الديمغرافي الذي يقضّ مضاجع العدو. إذ أنّ الدولة التي أرادها القادة الصهاينة دولة يهودية، ستتلاشى مع الوقت، نتيجة النمو الديموغرافي الفلسطيني، الذي سيجعل مستقبلاً من «يهود إسرائيل»، طائفة صغيرة في فلسطين التاريخية، يصعب على الإسرائيليين بعد ذلك، احتكار الدولة وحدهم وتقرير مصيرها بأنفسهم كما هو الحال في الوقت الحاضر.
بعد 76 عاماً من قيام الكيان المؤقت، ورغم الهجرة اليهودية إليه، فإنّ تعداد العرب من مسلمين ومسيحيين يفوق عدد اليهود فيه، إضافة الى أنّ الكيان على وشك استنزاف خزان الهجرة اليهودية إليه الى حدّ بعيد.
«إسرائيل» ترى في حروبها العبثية حلاً لأمنها وتطلعاتها التوسعية. حروب انتقدها بشدة أبراهام بورغ رئيس الكنيست الأسبق، مندّداً بالسلوك الإسرائيلي بقوله: «إنّ لدينا القوة العسكرية دون وزن مقابل. وهمّنا العمل على تحقيق النصر لجيشنا لأننا لا نفهم إلا لغة القوة، حتى انّ جيشنا الأكثر جيوش العالم هجوميّة يحمل اسم جيش الدفاع الإسرائيلي. ظلت «إسرائيل» أسيرة ماضيها الدموي والدرامي. لقد استغلينا المحرقة حتى أصبحنا بممارساتنا لها غارقين فيها… إنّ الحرب لم تعد استثناء لنا، بل أصبحت قانوناً.
طريقة عيشنا طريقة حرب مقابل الجميع… لقد ربحنا كلّ الحروب، ومع ذلك نحتفظ بشعور عميق بالخسارة… نحن قبلنا ان نعيش بسلام مع الجلادين الألمان، وجعلنا العرب مكانهم لنفرغ عدوانيّتنا عليهم.
ذهبنا الى الأمام مع الألمان والتعويضات، وفي الوقت نفسه لم يتوقف غيظنا وضغينتنا حيال العرب… إنّ البطولة الإسرائيلية المستندة الى القوة العسكرية والعنف، هي نتيجة النرجسية وعدم الثقة في نفوسنا؟! الشمولية والعداء للشعوب هما الروحان الوطنيان اللذان يحركان فينا الدعاء اليومي لليهود: «الشكر لك لأنك لم تجعلني من الغويم».
اليوم، بصمود الفلسطينيين ومقاومتهم، تسطّر غزة ملحمة تاريخ فلسطين الجديد.
بانتصارها يبدأ العدّ العكسي لدولة الاحتلال، فيما الكيان ومجتمعه المتآكل يتصدّع، تحرّكه وتوجّهه عنصريّة قذرة، بشعة بكلّ أبعادها وأشكالها.
غزة الأسطورة، بهرت العالم كله، الصديق والعدو، لتكون بحق أيقونة المقاومات ودرّتها، وهي تمرغ أنف المعتدين في رمال فلسطين، بإصرارها على تحرير الأرض واستعادتها من جديد.
«إسرائيل» بعدوانيتها وعنجهيتها، وضعت نفسها بين فكي كماشة: مقاومة فلسطينية مستميتة جنوباً، ومقاومة لبنانيّة باسلة شمالاً، تعرّي دولة الاحتلال وتذلّها.
متى سيقرّ الكيان العنصري الدخيل في جسم الأمة، بأنه لن ينعم بالأمن والسلام والاستقرار طالما أنّ احتلاله للأرض مستمر، وسلوكه العدواني متواصل؟!
متى يتخلى زعماء العرب وقادتهم، وهم أمام الخطر المحدق بالأمة وشعوبها، عن الأدبيّات الهشة، والمستهلكة التي تقتصر على انتقاد دولة الاحتلال دون ان يكون لهذه اللغة طعم، او رائحة، او لون، في الوقت الذي يشاهدون أشلاء الأطفال، والإبادة الجماعية تحصد أرواح الفلسطينيين، ويتمادون علناً وسراً في تطبيعهم وتنسيقهم مع العدو، ويخضعون لإرادة الغرب طوعاً، رغبة بدعمه ورضاه، فيما العدو «الإسرائيلي» مستمرّ في مجازره الهمجية مستخفاً بهم، غير مبالٍ بمواقفهم المخزية، وتصريحاتهم التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
لن يغيّر الدَّعي نتنياهو الشرق الأوسط كما يريد، إنما الذي سيغيّر وجه المنطقة وفلسطين، هم المقاومون الأحرار الذين يعبّرون عن وجدان الأمة وضميرها في نضالها من أجل الحرية والسلام الحقيقي القائم على الحق والعدل.
إنه تاريخ مشرّف جديد يسطره المقاومون عنوانه: من أفق غزة، يلوح اليوم بداية أفول نجمة داود…
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق