ثمار السلام…
} سعادة مصطفى أرشيد*
تشاركت سورية ومصر في حرب تشرين الأولى عام 1973، وتحقق في الساعات والأيام الأولى للحرب من الإنجازات ما تحقق في حرب تشرين الثانية، مع الفوارق في القوى والعدد والعتاد، ولكن اختلاف الرؤى وربما العقائد بين الحليفين السوري والمصري وبين من يرى في الحرب طريقاً للتحرير وللخلاص من المشروع السرطاني وبين من يريد تحريك مياه التفاوض الراكدة لاسترداد أرض خسرها في حرب سابقة، والعيش بسلام مع المشروع المعادي، أدّى ذلك الى ان تنفرد مصر في قراراتها وتوقف اندفاع جيشها تاركة الشقيق والحليف في منتصف الطريق يصارع منفرداً، فيما يتفاوض السادات مع أصدقائه الجدد الأميركيين الذين يرى انّ بأيديهم كامل أوراق اللعب، باسترخاء في استراحة القناطر الخيرية وصولاً إلى زيارته للقدس وتوقيعه اتفاق السلام مع «إسرائيل» المعروف باسم اتفاقية «كامب ديفيد».
خرجت مصر من دائرة الصراع مع المشروع المعادي ورفع السادات شعار مصر أولاً، فمصر حسب رأيه استردّت ما خسرته في حرب 1967 (أو هكذا قيل) وأصبح بإمكانها العيش بسلام وحسن جوار مع العدو الذي أصبح صديقاً. فالحروب لا تحلّ المشاكل ومؤذية لمصر أولاً، ولسوف تنهال المساعدات والمشاريع على مصر بعد هذا السلام، فلا بدّ من سياسة الانفتاح وإلغاء القطاع العام وعندها ستنعم مصر بفوائد السلام وينعم المصري بخياراته وحلاوته.
بعد حرب الخليج الثانية، وبظروف معقدة يطول شرحها، وصلت قيادة منظمة التحرير إلى ما كانت ستصل إليه حكماً باعتبارها امتداداً للنظام العربي، وهي القناعة التي سبق أن وصل اليها السادات، بأن 99% من أوراق لعبة الشرق الأوسط بين يدي الولايات المتحدة وبشكل غير مباشر بيد «إسرائيل» وشعار يا وحدنا، والى متى، وتخلت عن شعارات الدولة والتحرير والعودة وإن بقيت تتذكّرها بين حين وآخر، ووقعت مع الكيان الصهيوني اتفاق سلام ـ «اتفاقية اوسلو» واعتبرت أنّ هذا الكيان الغاصب هو القوة التي لا تُقهر والتي يجب الخضوع لها، مروّجة وهم أنّ الاتفاق هو خطوة على طريق الدولة المستقلة، والتي ستتحوّل سريعاً الى جنة العرب وسنغافورة الشرق الأوسط وواحة للاستقرار والاستثمار والرخاء التي سينعم بها الفلسطيني الذي شبع عذاباً واغتراباً واحتلالاً!
في السنة اللاحقة لاتفاقية أوسلو، وقع الأردن «اتفاقية وادي عربة»، واعتبر أنه بهذا التوقيع قد أخذ الضمانات بأنّ الأردن قد أصبح وطناً نهائياً لمن يعيش به، وانّ له حدوداً دولية مع «إسرائيل»، ولن يكون وطناً بديلاً لفلسطين إضافة الى تسويق قصص الرخاء وإلغاء الديون وما الى ذلك من حكايات وأوهام.
قبل حرب تشرين الثانية ألقى رئيس الحكومة «الإسرائيلية» بنيامين نتنياهو خطاباً في الجمعية العمومية للأمم المتحدة عرض فيه خريطة «إسرائيل» والتي لا يوجد بها لا فلسطين ولا أردن، ومسحت الحدود الدولية المتوهّمة التي اعتقد الأردن أنه كرّسها في اتفاقية وادي عربة، فيما يعرض وزير المالية الاسرائيلي سموتريتش خططاً تفصيلية لإنهاء الكيان الأردني وهي خطط معلنة ينشرها في الفضاء الواسع ولا يتحدث بها في الغرف المغلقة. فيما جاء الردّ الرسمي عليها وإنْ حمل في بعض الأحيان مقداراً متوسطاً من الحدة إعلامياً، إلا انه كان يخاطب به الوضع الداخلي، ولكن هذا الصعيد العملي فقد أحكم الطوق على الأردن في مجالات الماء والطاقة والغاز وبما يحول دون تحويل هذه الإدانات والاعتراضات الى عمل جدّي.
لا تختلف الحكومة «الإسرائيلية» المتطرفة عن المعارضة المتطرفة في مقاربتها للتعامل مع الفلسطيني الرسمي الذي ينسق معها في مجالات الأمن والاقتصاد وإدارة السكان، أو مع المعارض الفلسطيني المقاوم، فهم لا يريدون هذا ولا يريدون ذاك، وأفضل الفلسطينيين لديهم هو الفلسطيني الميت، وإنما يعملون على إحراج الأقرب اليهم ويرفضون إدارة أيّ حوار سياسي أو تفاوضي مع السلطة الفلسطينية مهما كان منخفض السقف.
على الحدود المصرية مع غزة والتي كانت الدولة المصرية قد أفرغتها من السكان لمنع التواصل بينها وبين أهل غزة، ولقطع أنفاق التهريب التي كانت تقطر قليلاً من الدعم في حلق القطاع المحاصر، نرى اليوم الشاحنات الضخمة ولكن شبه الفارغة في جوفها، كما نراها على شاشات الفضائيات، والتي تحمل مساعدات يُفترض أنها طبية وغذائية ولكنها تحمل الأكفان أولاً لأهل غزة الأموات ـ الشهداء لا الأحياء وتنتظر تفتيشها على الأرض المصرية من قبل «الإسرائيلي» قبل السماح بدخولها.
صبيحة السابع من تشرين الحالي اندلعت حرب تشرين الثانية، وحققت ما يفوق ما حققته سابقتها من دهشه ونشوة أصابتنا فيما أصيب العدو بالرعب والفزع والإرباك. إنّ ما تثبته هذه الحرب انّ أكثر الكيانات السياسية التي تضرّرت من هذه الحرب هي تلك التي علّقت آمالها على السلام، وافترضت أنها بالتنازل أمام «إسرائيل» تستطيع ان تحصل على ازدهارها، كما مصر التي أصبحت من أكثر دول العالم فقراً ومديونية ومطالبة باستقبال اللاجئين من أهل القطاع في سيناء، والأردن التي مسحت الحكومة «الإسرائيلية» خطوط حدودها الدولية معها وكأنها كانت مرسومة بأقلام الرصاص. ولا يخفي «الإسرائيلي» خططه لتهجير أهل الضفة الغربية الى الأردن مما يعني نهاية الدولة الأردنية التي قامت قبل قرن من الزمن لتصبح الدولة الفلسطينية، أما السلطة الفلسطينية فقد حظيت لفترة بسجاد أحمر وفرقة عزف للسلام الوطني، ولكنها لم تطُل، ويرفض «الإسرائيلي» الحاكم والمعارض على حدّ سواء فتح أيّ أفق سياسي مع السلطة الفلسطينية، وليس لديه ما يقدّمه لها سوى بعض التسهيلات الحياتية التي تدفع بالتقسيط البطيء، فيما يقول نقيب عمال فلسطين مطمئناً أعضاء نقابته من العمال، أنّ المساعي والاتصالات والجهود متواصلة وحثيثة لفتح باب العمل لأبناء الضفة الغربية في المصانع والمزارع «الإسرائيلية» التي أغلقت بسبب الحرب، لبناء سنغافورة، ولكن للعدو.
قبل قرن مضى عاش في مدينة القيروان التونسية الشاعر أبي القاسم الشابي يقول في قصيدة له بعنوان: «فلسفة الثعبان المقدس»:
أنَّ السَّلامَ حَقيقةٌ مَكْذوبةٌ
والعَدْلَ فَلْسَفةُ اللّهيبِ الخابي
لا عَدْلَ إلاَّ إنْ تَعادَلتِ القوى
وتَصادَمَ الإرهابُ بالإرهابِ
*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير – جنين – فلسطين المحتلة.