نقاط على الحروف

هل تشاغب فلسطين على الاستقرار العربي؟

ناصر قنديل

إذا وضعنا جانباً الذين ينطلقون من الألم المبرح الذي يسببه مشهد الدماء الفلسطينية في المذبحة المفتوحة أمام أعين حكومات العرب والعالم، والذين تنفطر قلوبهم على رؤية الأطفال وكيف يُقتلون بدم بارد، وكيف يفزعون وكيف يصابون بالذعر، ويُحرَمون من طفولتهم، حتى قال أحدهم جواباً على سؤال إحدى الصحافيات الأجنبيات له عن حلمه عندما يكبر، بقوله إن لا حلم لديه ليحقق عندما يكبر، لأن أطفال فلسطين لا يكبرون. وعندما سألته لماذا، قال لها ببساطة لأنهم يُقتلون وهم أطفال، فإن علينا أن نرتب أفكارنا بطريقة تحتاج إلى الكثير من الدم البارد رغم صعوبة المهمة، لكنها مهمة ملحة أمام جملة أفكار يطرحها، بعض الذين يحتفظون بدمهم بارداً أمام هول المذبحة، لكنهم يتلبّسون دور الخائف والقلق على الدم الفلسطيني، لطرح أسئلة تنطلق من التباكي على الدماء الفلسطينية، لتقول إن حماس أخطأت وورّطت الفلسطينيين بمذبحة بلا جدوى ولا طائل، وقامت بتحدي مصادر القوة العالمية وفي قلبها «إسرائيل» وهي لا تملك ما تدفع به الأذى عن الفلسطينيين. وتضيف أن محور المقاومة الذي لم يقم بتفجير حرب كبرى لأجل حماية غزة، يترك الدماء تنزف ويتحمّل مسؤولية نزفها، ونزف المزيد منها.
عنوانان رئيسيان يطرحهما هذا المنطق، الأول، هو هل نحن فعلاً بين خيارين هما هذه «المشاغبة» الفلسطينية المغامرة، وهو الوصف الذي أطلق بالمناسبة على حزب الله في اليوم الأول لحرب تموز 2006 من أعلى المراجع العربية الحاكمة، ومقابل هذه المشاغبة خيار الرخاء والهناء والاستقرار؟ أما العنوان الثاني فهو هل الإصرار على تسريع مفاعيل الحرب الكبرى من جانب محور المقاومة، الذي انخرط في الحرب فعلياً، هو إصرار نابع من الحرص على الدم الفلسطيني أم أن له غايات أخرى؟
يكفي أن نعود بالذاكرة لعشر سنوات الى الخلف، عندما كان الفلسطينيون لا يشاغبون على استقرارنا العربي ورخائنا وهنائنا، لنكتشف ما نتعلمه عن التاريخ، وهو أن لا فراغ في التاريخ، وأن قانون الصراع حتميّ، وأن ما لا تملؤه الصراعات الجوهرية والرئيسية للأمم سوف تملؤه الفتن والفوضى والإرهاب، والصراعات الجانبية. أليس الخيار هو بين أن تملأ الساحة فلسطين، أو سوف يكون البديل هو ما شهدناه، حرباً لتدمير سورية، وحرباً في اليمن، وحرباً في السودان، وحرباً في ليبيا؟ والمفارقة هي أن الذين جندوا نصف مليون مقاتل للحرب على سورية ورصدوا لها تريليوني دولار، كما قال حمد بن جاسم، وكانت كلفتها نصف مليون مواطن وجندي سقطوا شهداء وضحايا وقتلى، هم الذين لم يرفّ لهم جفن لكل هذه الخسائر، وهم الذين يحاضرون علينا اليوم بدموع التماسيح يذرفونها بمزاعم الحرص على فلسطين، وإذا أضفنا الى الحرب على سورية كلفة حرب اليمن والسودان وليبيا، سنصل الى خسارة مليون مواطن وجندي عربي، بلا قضية ولا وظيفة ولا أرباح، بل خسائر مطلقة. وإذا كان البعض ينزعج من توصيف هذه الحروب بلا قضايا لأنه كان متورطاً فيها، فيخترع لها قضية، تعالوا نكتفي بمثال السودان، حيث حرب بين طرفين يسيران بخيار التطبيع، ويتسابقان على ودّ النظام العالمي والعربي، وأرسلا مقاتليهم للقتال في حرب اليمن ضمن التحالف العربي الدولي، وقد سقط في الحرب العبثية التي دمّرت السودان اليوم أكثر مما سقط في غزة، والسودان بلا كهرباء وبلا مستشفيات ومدارس وجامعات، وأطفاله يموتون تحت ركام بيوتهم أو في الشوارع وعلى أبواب المستشفيات، لنعلم علم اليقين، أنه ما لم تكن فلسطين تملأ المشهد العربي، فإن ما سوف يملؤه هو مشهد السودان يتنقل من بلد الى بلد، والفتن والفوضى والعبثية والإرهاب سوف تكون الظواهر التي تتنقل من بلد الى بلد، بينما عظمة دماء فلسطين أنها أحيت الأمة، واعادت الاعتبار لقضيتها المركزية الضائعة، وذكرتها بهويتها الجامعة، وفرضتها على جدول الأعمال العربي والعالمي، وأحيت الإنسانية التي قتلت في الشارع العالمي وأعادت إحياء الضمير العالمي الذي رصدت ثروات طائلة لقتله.
هذا لا يعني دعوة للصمت على المذبحة، ولا دعوة لمحور المقاومة للتهاون والتباطؤ في واجبه نحو غزة وشعبها ومقاومتها، لكنه يدعو لطرح السؤال الكبير حول درجة براءة الصامتين على التطبيع والمروّجين له عندما يتحولون الى أساتذة في المقاومة، فهل تنتبه الى أن العنوان الفلسطيني للحرب أقلقهم وقضّ مضاجعهم، بما فعله بالشارع العربي والرأي العام العالمي، مستنداً الى مخزون إجماع الحق الذي يمثله في الوجدانين العربي والعالمي، ولذلك هم يريدون تسريع روزنامة انخراط محور المقاومة إلى مرحلة يسبق فيها عنوان فلسطين بعنوان بديل، فيمكن لهؤلاء العودة الى ما استعدّوا للتعامل معه، وأنفقوا أموالاً ودعاية وجهوداً للتلاعب بالعقول والقلوب عند حدوثه، والعنوان البديل المناسب هو «حرب بين إيران وإسرائيل لا علاقة للعرب وفلسطين بها»، بينما يتدرج محور المقاومة في الانخراط على إيقاع مزدوج، جناحه الأول درجة تجذر العنوان الفلسطيني للحرب، بحيث يبقى كل انخراط إعلان انتصار لفلسطين لا تشوبه شائبة ولا يزاحم فلسطين بعنوان بديل لعنوانها. والثاني هو إبقاء الضوء مسلطاً على هزيمة جيش الاحتلال في نكسة 7 تشرين التي أصابته، وعجزه عن الانتقام لكبريائه المكسور وعنفوانه الممرغ بالوحل، وهروبه من الحرب البرية، ليضطرّ لخوضها، فتتكسر رماحه، أو تدنو هزيمته وفضيحته معاً، وما دام الكيان يتحدّث عن حرب تمتدّ لشهور. فالتوقيت الذكي هو التوقيت الفاعل والصبح قريب، يرونه بعيداً ونراه قريباً.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى