الأبعاد والتداعيات الجيوستراتيجية لعملية «طوفان الأقصى»
} بتول قصير
بات من الصعب على كيان العدو استعادة هيبته المتهالكة بعد صفعة عملية «طوفان الأقصى» التي نفَّذتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي في عمق المستوطنات الإسرائيلية.
الهجوم الذي وصف بالمُعقَّد على المستوى العملياتي والهندسي والاستخباري، يُعَدُّ الأول من نوعه منذ قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي عام 1948. وعلى الرغم من عملية القتل الممنهج التي تنفذها قوات الاحتلال الصهيوني في حق الفلسطينيين يومياً بما يشبه عملية الإبادة الجماعية مقابل غيبوبة عربية ودولية، إلا أنّ عملية «طوفان الأقصى» مثَّلت تطوراً استثنائياً في قوة الفعل المقاوِم، وأثبتت قدرة المقاومة على إلحاق الأذى البالغ والعميق والاستراتيجي بدولة الاحتلال. وهي بالفعل كسرت العملية نمط الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي إلى الأبد، بالتزامن مع ضبابية الصورة المتوقعة للآتي، ويبدو أنّ أحداً لن يستطع التنبّؤ بردود فعل المقاومة وقيادتها على المدى القريب، نظراً للمفاجآت التي تتوعّد بها، في ظلّ عجز المجتمع الدولي عن تغيير الواقع الذي ترمي فيه «إسرائيل» كل قوانين وتقارير المجتمع الدولي وراء ظهرها، وتمضي قدُماً في قتل وسحق الفلسطينيين وحصارهم وتجويعهم أو أسرهم حتى الموت.
وهنا يبرز أحد أهمّ الأسئلة في بناء تصوّر لما يحدث يتمثل بالأهداف الاستراتيجية والسياسية التي تقف وراء قيام حماس بهذا الهجوم غير المسبوق؟
إنّ القضية الفلسطينية قضية سياسية ومركزية ومؤثرة على الأمن الدولي والإقليمي، في مواجهة الأجندات الدولية والإقليمية التي بدأت تمارس ضغوطاً ملحوظة على السلطة للقبول بتحويل القضية إلى ملف إداري وأمني واقتصادي، ومن هذه الأهداف ما يتعلق بحالة قطاع غزة الكارثية على الأصعدة كافة وتحديداً على المستويين الإنساني والاقتصادي. وأيضاً في ما يتعلق بالمسألة الرمزية المتعلقة بالأقصى وأهميته والانتهاكات الإسرائيلية، وتجاوز ما اعتبرته حماس سابقاً خطوطاً حمراء تتعلق بالأقصى. الأمر الثالث هو ما يتعلّق بالأسرى الفلسطينيين ومعاناتهم في سجون العدو، من أجل الوصول إلى صفقة تبادل كبيرة وضخمة.
ولا شك أنّ «حماس» سعت انطلاقاً من الأهداف السابقة التي أشرنا إليها، لما يشبه عملية تغيير الصراع وبناء قواعد جديدة تتناسب مع المفهوم الجديد الذي قدّمته الحرب الأخيرة، مع تطوّر قدرات كتائب القسام بصورة ملحوظة. وبالتالي انعكاس الحدث على مكانة حماس المحلية والاقليمية والدولية، والخروج بنتيجة مفادها إيجاد معادلة أفضل للقطاع.
وعليه فإنّ تساؤلات عديدة تطرح عن ما بعد المرحلة التالية والتداعيات المتوقعة للحدث؟ وهي أسئلة يصعب الإجابة عليها، لأنّها مرتبطة بدرجة كبيرة بالتطورات الميدانية على أرض الواقع. فهل مساحة المعركة ستقتصر على غزة، بالتوازي مع التلويح لحرب برية واسعة وكبيرة واجتياح للقطاع؟ وإذا تمّ اجتياح غزة، ماذا ستفعل «إسرائيل» بعد ذلك؟ وماذا عن الأوضاع في الضفة الغربية والـ48؟ والأهمّ من ذلك ماذا عن جبهة الشمال التي يخشاها العدو، وهل الجبهة الشمالية أمام سيناريو انفجار مفاجئ أم ستبقى المسألة في حدود التوتر والمناوشات بين حزب الله وجيش الاحتلال؟ وخاصة أنّ حزب الله، قد ربط دخوله بالحرب باجتياح كبير للقطاع وارتكاب مجازر ضدّ المدنيين، وما يجري على الحدود اللبنانية هو ضمن قواعد الاشتباك الطبيعي في معادلة الردع التي وضعتها المقاومة.
على المقلب الآخر، وتحديداً على صعيد السياسات الدولية، من المؤكد أنّ الأحداث الحالية أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة وإلى أولويات الأجندة الدولية، وأنهت أحلاماً كبيرة على مشروع التطبيع الإقليمي بوصفه بديلاً عن الحلّ النهائي. أما إقليمياً، فإنّ تنامي حركات المقاومة واشتداد ساعدها، مع التحوّل في أنماط الحروب ومفاهيم المواجهات المسلحة، ليس فقط في فلسطين بل في لبنان وسورية والعراق، مع ما يحدث في سورية والعراق واليمن وليبيا وغيرها، فإنّ التنظيمات المسلحة تثبت فعاليتها على الأرض مقارنة بالجيوش النظامية بصورة أكبر.
وعليه، يمكن القول انّ عملية «طوفان الأقصى» في سياقها الزمني، تزامنت مع سياقات زمنية عدة، أبرزها، تزامنها مع الذكرى الخمسين لانتصار أكتوبر المجيد عام 1973، أيضاً تزامنها مع «عيد العرش» وفترة «سمحات توراه – بهجة التوراه» التي تشهد فيها الثكنات العسكرية الإسرائيلية والمستوطنات حالة من الهدوء النسبي، والأهمّ من ذلك، هو تزامنها مع ما يتعلق بالفوضى الداخلية الإسرائيلية على المستويين الاجتماعي والسياسي على اثر أزمة الإصلاحات القضائية، وانعكاس ذلك على اضطراب الأوضاع الأمنية بما يؤسس لفرضية تراجع وفشل نظرية «الردع الإسرائيلي».
بالاضافة الآلية التي اعتمدتها كتائب القسام في طريقة تنفيذها وعنصر المفاجأة فيها، مما سبّب حالة من الصدمة والذهول لدى أغلب المتابعين للشأن السياسي بما فيهم الإسرائيليون أنفسهم، الذين لطالما تباهوا بقدرات «إسرائيل» العسكرية وقوة نظامها الاستخباري، ونجاح المقاومة في عمليات التمويه والمباغتة وتضليل الأنظمة الاستخبارية العسكرية المتطورة التي وضعتها «إسرائيل» على الحاجز الأمني لغلاف غزة، وهي رسالة واضحة من المقاومة الفلسطينية لاستنهاض الأمة من جديد وتذكيرها بأمجادها وقدراتها على دحض المحتلّ رغم ما يمتلكه مقدرات هائلة.
وعطفاً على الآلية المعتمدة للعملية فإنّ ما فرضته طبيعة العمليات من تخطيط مسبق لخريطة التحرك وذلك على مستويين الأول: «المستوى الجوي» عبر إطلاق الصواريخ والقذائف بكثافة على مواقع الاستهداف، والثاني: «المستوى البري» عبر تنظيم عمليات اقتحام منظمة للمستوطنات الإسرائيلية على الغلاف الحدودي، والتطور النوعي في مدى الصواريخ المستخدمة لتصل قدراتها الفعلية إلى 200 كلم لتطول «نهاريا» قرب الحدود الإسرائيلية اللبنانية في أقصى الشمال وذلك مقارنة بالمدى الصاروخي لعمليات استهداف المقاومة لتل أبيب والقدس المحتلة حيث وصلت إلى 120 كم عام 2012، فضلاً عن الاستناد إلى عنصري «المباغتة» و»المفاجأة» عبر الاستفادة من الخبرات التاريخية لتطوّر التكتيكات الهجومية للفصائل الفلسطينية منذ عملية «الثأر المقدس» عام 1996 وصولاً إلى عملية الطوفان الأخيرة، وتمكن المقاومة الفلسطينية من تطويق العديد من المواقع الأمنية والعسكرية وتدميرها، بالإضافة إلى استهداف الجنود والمستوطنين وأسرهم، كورقة ضغط سياسية للمقايضة عليها.
في المحصلة لا يمكن الحكم حاليّاً على النتائج، لكن مبدئيّاً تمّ خلط الأوراق في المستويات الثلاثة (الفلسطينية – والإسرائيلية، والإقليمية، والدولية)، وبالرغم من النصر الرمزي الكبير الذي تحقق في البداية إلاّ أنّ هنالك مراحل أخرى لا تزال قائمة وتفتح على احتمالات متعدّدة، وبالتالي يصعب التنبّؤ بمستقبل التصعيد ورهانات المهادنة، ليبقى الاختبار الحقيقي متمثلاً في أدوار الوساطات الإقليمية والدولية، وما يُعوّل عليه من صياغات وتفاهمات. ويبقى الثابت الوحيد هو أنّ حركة «حماس» نجحت من خلال عملية «طوفان الأقصى» في دفع جميع الأطراف الإقليمية والدولية لإعادة حساباتها، بالإضافة الى الصفعة التي وجهتها للكيان الصهيوني وأماطت اللثام عن هشاشة أمنية واستخبارية وعسكرية «إسرائيلية»…