غزة تخوض معركة الحرية والحق والكرامة الإنسانية… فلا تخذلوها
} د. عدنان نجيب الدين
إنّ ما قامت به المقاومة الفلسطينية في السابع من تشرين من عملية بطولية تحت عنوان «طوفان القدس» أصابت العدو «الإسرائيلي» ليس فقط بالصدمة والذهول بل أصابته بمقتل، وأظهرت عجزه عن مواجهة بضع مئات من المقاومين حرّروا «غلاف غزة» خلال ساعات، بعد مهاجمة ثكنات الجيش الصهيوني وقتل وأسر المئات وجرح الآلاف من جنوده المحتلين، ولا يمكن فصله عن السياق التاريخي للنكبة عام 1948 التي حلت بالشعب الفلسطيني عند غزو الصهاينة لبلاده وارتكاب المجازر بحق أهله حين راحت العصابات الصهيونية تهاجم البيوت الآمنة وتقتل النساء والأطفال والرجال المدنيين وتطرد من بقيَ حياً منهم خارج فلسطين فهجّرت مئات الآلاف منهم إلى الدول العربية المجاورة ليعيشوا في مخيمات الذلّ في ظروف معيشة صعبة وأحياناً مستحيلة.
إنّ عملية طوفان القدس هي بمثابة بداية حركة تحريرية للأرض التي اغتصبها الصهاينة وأقاموا فيها مستوطنات جاء إليها وقطنها يهود من بلدان أخرى وهم ليسوا أصحاب حقّ فيها.
وقبل أن يستفيق العدو الإسرائيلي من صدمته جاء الرئيس الأميركي جو بايدن الى القدس المحتلة بعد ان سبقته حاملة الطائرات جيرالد فورد ثم تبعتها حاملة طائرات أخرى ومعها بضع مدمّرات وفرقاطات كدعم ومساندة للعدو لكي يقوم بحربه التدميرية لقطاع غزة فلم يوفر بناء إلا وهدمه، ولا أطفالاً إلا وقتلهم مع أمهاتهم وآبائهم، حتى المدارس والمستشفيات ودور العبادة الإسلامية منها والمسيحية إلا وقصفها بالطائرات الحربية الأميركية الصنع. وهكذا ما زلنا نشهد هذه الحرب المجنونة على شعب فقير يعاني من الحصار والتجويع على مدى سنوات طويلة، اذ انه لا يحصل على غذائه كما يجب ولا على العناية الطبية ولا على فرص العمل وكذلك يُمنع عليه الخروج والدخول إلى أرضه إلا إذا حصل على إذن من المحتلّ الصهيوني.
أمام كلّ هذا الواقع المؤلم والمرير، كان لا بدّ للمقاومة من أن تكسر هذا الحصار وتبدأ الخطوات الأولى لتحرير الأرض المغتصبة.
نجحت عملية «طوفان الأقصى» وأظهرت فشل العدو وهشاشة جيشه وهزالته أمام المقاومين الفلسطينيين الأبطال.
وهنا تحركت دول الغرب المنافق وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية لمساندة ربيبتهم «إسرائيل» والدفاع عنها وحمايتها من السقوط، وحاولوا تشويه صورة المقاومة واعتبروا أنّ ما قامت به هو عملية إرهابية توازي عملية الهجوم على الأبراج الأميركية في نيويورك في 11 أيلول 2001، وجاء رؤساء فرنسا وألمانيا وبريطانيا ومعهم كلّ أوروبا ليشكلوا حلفاً عسكرياً مع الكيان الصهيوني بهدف القضاء على المقاومة الفلسطينية وفي مقدمتها حركة حماس، وتهديد كلّ من يمكن أن يقدّم الدعم لهذه المقاومة. وانعققد مجلس الأمن أكثر من مرة ولم تسمح له أميركا باستصدار قرار يوقف إطلاق النار ليضع حداً للمذبحة الصهيونية ضدّ الشعب الفلسطيني ويوقف حرب الإبادة ضدّه.
انه مشهد سوريالي أن يأتي الغرب بدوله وحلفه الأطلسي ليقضي على حركة مقاومة فلسطينية محدودة العدد والعدة لكنها تستند إلى إيمانها بقضيتها العادلة والى دعم شعبها وشعوب العالم العربي والشعوب الإسلامية التي ترفض الظلم الناتج عن الاحتلال الصهيوني لفلسطين.
أمام كلّ هذا الحشد للدول الغربية ضدّ المقاومة الفلسطينية التي لم يكن، مع الأسف، للأنظمة العربية فضل عليها، لا في تنظيمها ولا في تدريبها ولا في تسليحها ولا في نقل الخبرات التقنية إليها، لأنّ كلّ ذلك حصلت عليه بفضل وطنيتها وإرادة شعبها وإبداعاته، مستندة إلى دعم ومساعدة من الجمهورية الإسلامية في إيران وقوى المقاومة في المنطقة، يشعر المواطن العربي بالصدمة والدهشة أمام موقف الأنظمة العربية التي فشلت في استصدار قرار عن القمة العربية الأوروبية في القاهرة يدين حرب الإبادة الصهيونية ضدّ الشعب الفلسطيني في غزة البطلة.
وفشلت هذه الأنظمة في اتخاذ موقف موحد من العدوان الصهيوني الأميركي على شعب غزة. فلم تقطع علاقاتها بالكيان الغاصب ولا بالدول الداعمة له، كما لم نر منها إدانة لدعم الولايات المتحدة والغرب للمجازر التي تنفذها «إسرائيل» وللتدمير الغاشم لكلّ مرافق الحياة ولهدم المنازل على رؤوس ساكنيها وقتل الأطفال الذين فاق عددهم الآلاف، يُقتلون بحرب إجرامية لم يسبق لها مثيل.
انها لمفارقة عجيبة نعيشها في هذا القرن الذي خرق فيها الكيان الغاصب ومعه كل داعيه الغربيين كل القوانين والأعراف الدولية.
وهذا الغرب الذي أبهرنا فلاسفته ومفكروه منذ عصر الأنوار إلى عصرنا الراهن بكلّ النظريات التي تريد تأمين سعادة البشر على هذا الكوكب، والذي كانت له اليد الطولى في سنّ القوانين لحماية حقوق الطفل وحماية حقوق المرأة، وحماية حقوق الإنسان، يصدمنا اليوم بالسلوك الظالم والعنصري لحكوماته ودعمها المطلق للجرائم التي ترتكبها «إسرائيل» ضدّ شعب غزة!
أما الأنظمة الحاكمة في الدول العربية، فهي كانت ولا تزال تطلق الخطب والقرارات حول حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه، وأنها مع استعادة أرضه ومقدساته وأنها تعمل من أجل تحصيلها. وبعد مرور عشرات السنين على المفاوضات وما يسمّى بـ «عملية السلام»، بقينا نشهد إمعان الصهاينة في قضم الأرض الفلسطينية وإقامة المستوطنات على حساب أصحاب الأرض الحقيقيين وفي حصار الشعب الفلسطيني وتجويعه، حتى في داخل كيان العدو هو يمارس التمييز العنصري ضدّ الفلسطينيين الذين بقوا متمسّكين بأرضهم ولم يغادروها، وطبعاً نحن نشهد كلّ يوم التعديات على المسجد الأقصى الذي يمثل بالنسبة للمسلمين رمزية دينية كبرى. كذلك الاستفزازات ضدّ من بقيَ من المسيحيين في فلسطين.
وهنا نسأل: أليس مخزياً لـ 400 مليون عربي ومليار ونصف المليار مسلم أن يبقى هذا الكيان الغاصب لفلسطين قائماً بكلّ عنجهيته وجرائمه يتحدّى كلّ هذه الملايين ولا نجد أحداً ينتفض في وجهه ويضع له حداً؟ أليس مهيناً أن تذهب بعض الدول العربية والإسلامية لتمدّ يدها إلى يده وتقيم معه علاقة صداقة بل وتحالف؟ أين الكرامة العربية وأين الحق العربي وأين الالتزام بالعروبة وبالدين إن كنتم متديّنين؟
وكذلك نسأل: ماذا لو أنّ الحكام العرب قد ضربوا أرجلهم في الأرض وهدّدوا أميركا والغرب بأنهم سيحركون جيوشهم للدفاع عن غزة ووقف الحرب الإجرامية على شعبها؟ إنّ لأميركا والغرب مصالح مع العالم العربي يمكن أن تخسرها هذه الدول إنْ استمرت في دعم العدوان على غزة فضلاً عن انّ أميركا لم تعد الدولة الكبرى الوحيدة في العالم ولم يعد جبروتها كما في السابق بالرغم من وحشية حكامها الذين لا يتورّعون عن شنّ الحروب على دول العالم ويفرضون الحصار الظالم على شعوبها، إلا أنها أصبحت أمام تحدّ قوى دولية أخرى مثل الصين وروسيا وأخرى إقليمية صاعدة لها تأثيرها الكبير مثل إيران التي لو أحسن العرب التعاون معها على قاعدة التكامل الاقتصادي وحماية أمنهم الإقليمي والعداء للصهيونية واستعادة فلسطين لاستطاعوا فعل المعجزات ولأصبحوا قوة عالمية كبرى يُحسب لها ألف حساب. عندها ستقف الحرب، وسيتوقف ابتزاز العرب وإبقائهم سوقاً استهلاكية لمصانع السلاح الأميركي والغربي. على الأقلّ سيريح الحكام العرب ضمائرهم التي لا شكّ أنها تجعلهم لا ينامون وهم يرون إخوانهم الفلسطينيين يموتون بل ويُذبحون أمام أعينهم.
وهنا نوجه نصيحة إلى كلّ الحكام العرب: انّ الحاكم الذي يدافع عن قضايا أمته ويستند إلى دعم شعبه أقوى من الحاكم الذي يحتمي بقوة أجنبية ولو كانت أميركا. ولقد رأينا زعماء وسياسيين كانت الولايات المتحدة الأميركية تشكل دعماً لهم وحماية لكنها استغنت عنهم وفقدوا سلطتهم وجرى استبدالهم بآخرين. أما الذين استندوا إلى دعم شعوبهم فقد أصبحوا أبطالاً خالدين وحققوا لشعوبهم وأوطانهم القوة والعزة والكرامة والتقدم والازدهار.
وبناء على ما نعرفه من التاريخ الصهيوني الأسود في فلسطين السليبة، وبناء على ما ظهر من دراسات ومخططات وضعها الصهاينة وتبنّتها الولايات المتحدة، فإن ما يحصل اليوم في غزة وما أعلنه رئيس وزراء العدو نتن ياهو، وقبله المخططون والمفكرون السياسيون الصهاينة، هو ضمن استراتيجية تهجير الغزاويين إلى سيناء مع ما يشكل ذلك من محاولة للاستيلاء على أرضهم وضمّها إلى «إسرائيل»! وكذلك من خطر على سيادة الدولة المصرية على أراضيها، ثم تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الأردن على أن يكون وطناً للفلسطينيين بغضّ النظر عن معارضة النظام الأردني لذلك. ثم تهجير فلسطينيّي الجليل والشمال إلى لبنان لتصبح دولة الكيان الغاصب يهودية صرفة وأمراً واقعاً وليس مجرد حلم عند اليهود العنصريين.
والأخطر من كلّ ذلك، أنّ المخططات الصهيونية تهدف إلى إثارة الفتن في الدول العربية لضرب الوحدة الوطنية في داخل كلّ بلد عربي تمهيداً لتقسيمه إلى دويلات متصارعة، لأنّ تفتيت وتقسيم دول العالم العربي هو إضعاف لها لكي تبقى «إسرائيل» هي الأقوى وهي المهيمنة. وإذا ما تحقق المشروع الصهيوني لن تنجو من نتائجه المدمّرة أيّ دولة عربية من الخليج إلى المحيط. وما حصل في السودان ليس بعيداً عن تلك المؤامرة الكبرى التي لا تزال تستهدف سورية والعراق واليمن ولاحقاً مصر والسعودية وهلم جرا.
لذلك على الدول العربية أن تعي خطورة هذه المخططات الجهنمية للصهيونية العالمية، وعليها أن تساند الشعب الفلسطيني ومقاومته، وأن تكون متعاونة مع كلّ دول وحركات المقاومة لإفشال هذه المؤامرات، وإذا، لا سمح الله، هُزمت المقاومة ومحورها، فإنّ المخطط الصهيوني يكون قد حقق الخطوة الأولى في المشروع الذي أشرنا إليه وعلى مصر والسعودية أن تنتظر العدّ العكسي لبداية الخراب الذي سيدقّ أبوابهما على أيدي الصهاينة بصورة خفية، لكن نتائجه ستكون ظاهرة للعيان. وعلى الدول الإسلامية والعربية الاتحاد ووضع خطط مضادة لحماية الأمن القومي العربي والإقليمي.
انّ الجمهورية الإسلامية في إيران أقرب إلينا كعرب من الولايات المتحدة الأميركية التي تفصلنا عنها المحيطات بينما نحن نتشارك مع إيران الإرث الثقافي الواحد وكذلك الجغرافيا والتاريخ بل والمستقبل بكلّ تأكيد، نستطيع أن نتعاطى معها بندية تامة لأنها تشبهنا وتجاورنا، وبما انّ مصالحنا واحدة والأخطار التي تهدّدنا واحدة. فعلينا ألا ننخدع بالأكاذيب الأميركية التي تدّعي حماية بلداننا، بل هي على العكس تنهب خيراتنا وتنتقص من سيادتنا وكرامتنا، ولا ننسى ما قاله ترامب لحكام دول الخليج: إنكم لا تصمدون أسابيع على عروشكم إن أسقطت أميركا حمايتها عنكم! علينا ألا نكترث لتهديدات أميركا، ولا للإغراءات التي تقدّمها لبعض الحكام العرب، لأنّ من يرهن نفسه وبلاده لأميركا والغرب يكون قد اقترف إثماً عظيماً وخطيئة كبرى بحق وطنه وشعبه. انّ الأمن القومي العربي هو جزء من الأمن الإقليمي العام، ولذلك نناشد مصر التي لها مكانة خاصة في قلوب الملايين من أمتها العربية، وكذلك دول الخليج العربي ألا تركن للذين ظلموا، ايّ للعدو الصهيوني، وأن تحاول التخلص من حبائله وشِراكه التي ينصبها لهم من خلال اتفاقيات سلام ومعاهدات ابراهيمية خبيثة أو غيرها، فكلّ ما يريده العدو الصهيوني هو وضع اليد على أموالكم وثروات شعوبكم واستتباعكم، وما على هذه الدول العربية التي نحبّها وتحرص عليها الا أن تشبك أيديها بأيدي إيران لأنها الجار الأقرب اليكم، وهي الأقدر على فهم هواجسكم وتطلعاتكم والأحرص على مصالحكم من الولايات المتحدة الأميركية المتعجرفة التي تحكمها مافيات من المستثمرين الصهاينة وأصحاب رؤوس الأموال الجشعة، لا يهمّها إلا السيطرة على العالم وعلى نهب خيراته وجميع مقدراته، مستندة إلى جبروت قوتها، لكن القوة لها حدود، لأنّ الشعوب هي المنتصرة في النهاية طال الزمن أم قصر، والتاريخ الحديث يشهد على ذلك، وما لحق بالولايات المتحدة الأميركية في العراق وأفغانستان من هزائم شاهد على ذلك…
لذلك نناشد الدول العربية أن تقف اليوم وقفة العز والكرامة نصرة لفلسطين وشعبها الصامد المقاوم. إنّ تحرير فلسطين، كلّ فلسطين من البحر الى النهر واجب وطني قومي وشرعي وإنساني وأخلاقي يتحتم تأديته ودعمه على كلّ عربي ومسلم ومسيحي شريف، وأن يكون في خندق المقاومة اليوم في مواجهة القوى الغربية العنصرية والظالمة.
انّ تحرير فلسطين يعني عودة الشعب الفلسطيني إلى أرضه واستعادتها من أيدي الصهاينة المحتلين العنصريين وإقامة دولته الوطنية فوق كلّ فلسطين، دولة ديموقراطية يعيش فيها الجميع، ويتساوى فيها الجميع بالحقوق والواجبات.
انّ غزة اليوم تخوض معركة الحرية والحق والكرامة الإنسانية نيابة عن كلّ العرب والمسلمين وأحرار العالم، فلا تخذلوها. والتاريخ سوف يحكم على كلّ فريق بحسب موقفه من الحق الفلسطيني، فإما أن ينصره وإما أن يلعنه الله والتاريخ وسائر الأحرار في هذا العالم…