حرب طويلة تتخللها أكثر من هدنة
ناصر قنديل
تتدفق التحليلات العسكرية والاستراتيجية المحكومة غالباً بالتمنيات أو المخاوف أو بكلتيهما، وينجرف أغلبها نحو وقائع جارية على سطح المسرح، متجاهلا عمق التوازنات وتراكم الاختبارات وما تركته من نتائج على حدود حركة الأطراف، لذلك نحتاج إلى مقاربة أكثر بعداً عن مسرح الأحداث دون الانسلاخ عنه، لكن مع توسيع دائرة النظر، ثم إلى نظرة تعود إلى الوراء في استخلاص نتائج عقدين من المواجهة العالمية المفتوحة، وتؤسس على هاتين محاولة لرسم خطوط بيانية للحركة، تنطلق من التسليم بأن الذي يجري واحد من أعقد الصراعات، وأكثرها تداخلاً بين الخطوط الحمراء لقوى لا تتحمل الهزيمة، وتملك مقومات القدرة على القتال لمنع وقوعها، في ظل عنوان للصراع يتصل بقضية تثير العواطف والغرائز وتتصل مباشرة بالاستراتيجيات للأطراف المواجهة، ولكن بالعقائد أيضاً.
الآن «إسرائيل» مهزومة هزيمة شديدة القسوة على الصعيد المعنوي، وقوة الجيوش والدول معنوية أولاً وأخيراً. وهذه الهزيمة تتراكم فوق مسار من الهزائم، لتكون أقساها، وهزيمة «إسرائيل» هي هزيمة أميركية بامتياز، لأن الحضور الأميركي في المنطقة يتناسب طرداً مع درجة القوة الإسرائيلية، والهزيمة الأميركية تتراكم مع هزائم سبقتها أصيب بها المشروع الأميركي في سورية واليمن وقبلهما في العراق وبعدهما في أفغانستان، وفي قلب تطورات دولية تسجل تراجعاً أميركياً وصعوداً لروسيا والصين، ولأن الهزيمة بانت وجودية، سارع الأميركيون والإسرائيليون الى قرع طبول الحرب لرد الاعتبار، لكن السقف الذي رسمه الأميركيون والإسرائيليون ضمن مشروع رد الاعتبار عنوانه السعي لإلحاق هزيمة وجودية بحركة حماس، وقوى المقاومة في فلسطين، ما يعني إلحاق هزيمة وجودية بمحور المقاومة الذي يتخذ من فلسطين عنواناً له ومبرراً لوجوده، وهزيمة استراتيجية بإيران التي جعلت قضية فلسطين محور سياستها الخارجية ودورها الإقليمي.
كما هو الحال في حرب أوكرانيا، حيث تستمر الحرب لأن واشنطن وموسكو لا تستطيعان التراجع فيها، ويصبح عمر الحرب هو العمر الافتراضي لبقاء الرئيس الأوكراني وفريقه الحاكم وجيشه في خطوط القتال، وفي لحظة الانهيار أو قبلها بقليل قد يتغير كل شيء. يبدو الحال في غزة ومن خلالها في فلسطين، أن إيران وأميركا لا تمتلكان قدرة التراجع، حيث الالتزام الذي يتخذه كل طرف يتصل بالبعد العقائدي والوجودي، ولذلك فإن المنطقة كلها فوق صفيح ساخن، والصيغة التي تنتهي عليها تأثير كبير وحاسم على مستقبل المنطقة وخرائطها، وحدود النفوذ فيها. وهذا معنى تحرك المواجهة حول العراق وسورية واليمن، وحكماً لبنان، ولأن الحضور الفاعل خصوصاً على الصعيد العسكري في هذه الدول ليس لصالح الأميركي والإسرائيلي، فتجري الضغوط السياسية الداخلية لتعطيل قدرة هذا الفعل العسكري تحت شعار التحييد.
الحرب الطويلة ليست لمصلحة «إسرائيل» بحكم التكوين والبنية العسكرية والاجتماعية، لذلك يجري السعي لجعل كلفة كل يوم على صعيد خسائر غزة المدنية فوق قدرة الاحتمال، وتم فتح الطريق لتبرير إغلاق معبر رفح على سكان غزة وإليها، تحت ذريعة منع مخطط التهجير، الذي لا يتمّ إلا بالتوافق السياسي، وبدونه يصير مثل فزاعة التوطين في لبنان، يستخدمها البعض فقط لتبرير سياسات عنصرية بحق الفلسطينيين، بينما لا يمانعون بانضمام لبنان كدولة الى مسارات التطبيع إذا استطاعوا، وهم يعلمون أن رديف التطبيع هو التوطين، لأن إسقاط المقاومة يسقط حق العودة. وهكذا جرت مسامحة مصر بأي جهد لإنقاذ البعد الإنساني في غزة، حتى باستضافة الجرحى، وتأمين الكهرباء، وفتح المعبر باتجاه واحد نحو غزة ولو من طرف واحد، بحيث صار العجز عن احتمال الزمن مشتركاً بين «اسرائيل» والفلسطينيين.
في المواجهة البرية اليد العليا للفلسطينيين، وفي المواجهة النارية اليد العليا لـ»إسرائيل»، والإسرائيلي لا ينتصر دون مواجهة برية، والفلسطيني لا يحتفل بنصره دون وقف المواجهة النارية. هنا يصبح لعامل جديد دخل على الخط هو الرأي العام العربي المتحرّك في الشارع، ومثله شارع غربي فاعل يتصاعد، دور حاسم، في الضغط لفرض أحد أمرين، اختصار الزمن، أو إنجاز هدنة، ثم عودة متدرّجة للحرب ثم هدنة، عنوان كل منها هو ذاته، مزيد من المساعدات مقابل مزيد من الرهائن، حتى يتبلور مناخ دولي إقليمي جديد يسمح بربط الحلول المؤقتة بمفاوضات حول الحلول الدائمة، وما يحتاجه من فك وتركيب في الأطر السياسية الإسرائيلية والفلسطينية، يرحل نتنياهو ومحمود عباس، تحوّلات لن تكون منفصلة عن تبلور مشهد دولي جديد، خصوصاً حول أوكرانيا والعلاقات الروسية الأميركية.
أوروبا سوف تكون الخاسر الأكبر، ومثلها عرب أميركا، والتطرف الصهيوني الديني والقومي، وحماس سوف تكون عنوان الحكومة الفلسطينية في مؤتمر دولي للحل الدائم، وسورية تتحوّل الى حاجة دولية في هذه المتغيرات، والأميركي سيتراجع لصالح إيران في المنطقة، ويتقاسم أوروبا مجدداً مع روسيا.