كيف يمكن وقف حرب الإبادة في غزة؟
} د. عصام نعمان*
حربُ الإبادة التي تشنّها “إسرائيل” في غزة وقطاعها مستمرة، متصاعدة ومستهدفةً الناس جميعاً، رجالاً ونساءً وأطفالاً ومسنين (أكثر من 8200 شهيد معظمهم أطفال ونساء) وأبنية ومخازن تجارية ومستشفيات ومساجد وكنائس ومرافق عامة للماء والكهرباء والاتصالات. أحياءٌ برمّتها جرت وتجري تسويتها بالأرض، كما تقوم طائرات العدو الحربية بقصف تجمعات النازحين في الشوارع ومحيط ما تبقّى من مستشفيات. ما حدث ويحدث في قطاع غزة كارثة هائلة غير مسبوقة في تاريخ فلسطين وبلاد العرب.
كلُّ ذلك والهجوم البرّي الموعود لم يبدأ بعد. ما حدث ليلةَ يوم الجمعة الماضي من توغلات في محاور ثلاثة كان مجرد اختبار، بحسب مزاعم العدو، لقدرات المقاومة الدفاعية. مهما يكن الأمر، فقد أفلحت المقاومة في صدّها وإنزال خسائر فادحة بالمهاجمين.
حربُ الإبادة مستمرة، إذاً، ومتصاعدة لدواعٍ ثلاثة تتكرّر على ألسنة كبار قادة العدو:
ـ طوفانُ الأقصى خلّف صدمةً عامة وعارمة في نفوس الإسرائيليين، كما ولّد في نفوسهم، خصوصاً لدى القادة السياسيين والعسكريين، شعوراً واقتناعاً بأنّ كيان الاحتلال بات يواجه خطراً وجودياً ما يستوجب التخطيط والإعداد لمواجهة استثنائية ضدّ أعدائه.
ـ هيبةُ “إسرائيل” و”شرفها” انتهكهما طوفان الأقصى وفعل المقاومة الفلسطينية ما يستوجب، في رأي كبار القادة والمسؤولين، ثأراً مدوّياً من مسبّبي هذه الإهانة بغية استعادة ماء الوجه.
ـ هيبةُ الولايات المتحدة انتهكها أيضاً طوفان الأقصى وصانعوه إذ شكّل تهديداً خطيراً ماثلاً لوجودها ونفوذها ومصالحها في عالم العرب والمسلمين لكونه نجح في تفجير نقمة شعبية مكبوتة ضدّ أميركا، الحاضنة التاريخية للكيان بما هو العدو اللدود للفلسطينيين والعرب والحارس الساهر على حماية مصالح الغرب الأطلسي من المحيط الى الخليج.
إذ تتصاعد حرب الإبادة في غزة وقطاعها وتتبدّى تداعياتها الكارثية على جميع المستويات، تتصاعد في المقابل أصوات المتضرّرين والمعانين، كما بعض المسؤولين المطالبين بوقفها. وإذا كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد توصّلت الى إقرار توصيةٍ بوقف إطلاق النار وإعلان هدنة لتأمين دخول المستلزمات الطبية ومتطلبات الإغاثة والوقود الى القطاع، فإن لا قوة إلزامية لهذه التوصية من جهة، ومن جهة أخرى لأنها لن تجد آذاناً صاغية لدى “إسرائيل” شأن عشرات القرارات الأممية الصادرة قبلها. ذلك كله يتطلّب مقاربةً مغايرة ذات فعالية لإكراه كيان الاحتلال على وقف الحرب كإجراء لا بدّ منه لإنهاء الكارثة التي يرتكبها العدو في القطاع، وذلك بغية تسهيل وصول المساعدات الإنسانية اليه.
كيف يمكن وقف الحرب؟ إنها مهمة صعبة للغاية، لكن لا بدّ من مباشرة العمل لإنجازها. كيف؟
ثمة ثلاث مقاربات في هذا المجال. الأولى ذاتية، ايّ نابعة من داخل “إسرائيل” ذاتها. الثانية إقليمية، أيّ نابعة من دول الإقليم وهي في غالبيتها عربية. الثالثة عنفيّة، أيّ نابعة من بيئة تنظيمات للمقاومة مقتدرة عسكرياً وناشطة بقوةٍ ضد “إسرائيل”.
المقاربةُ الأولى الذاتية قوامها توظيف استياء وقنوط جمهور عريض وفئات سياسية واسعة داخل الكيان الصهيوني كما تداعيات الحرب على الحياة اقتصادياً واجتماعياً لإطلاق مبادرةٍ للضغط على حكومة نتنياهو، غير المرضي عنها من جمهور الإسرائيليين، من أجل وقف الحرب.
المقاربةُ الثانية الإقليمية قوامها مبادرة المنظومات الحاكمة في الدول العربية، خصوصاً تلك التي طبّعت علاقاتها مع “إسرائيل”، متسلحةً باتساع التأييد الشعبي العربي الجارف للشعب الفلسطيني ومقاومته المتعاظمة والفاعلة، لمطالبة الولايات المتحدة بالضغط على كيان الاحتلال بغية وقف الحرب، وإلاّ اضطرار بعضها او كلها، الى إلغاء معاهدات الصلح واتفاقات التطبيع مع “إسرائيل” لتنفيس غضبة الجماهير. ولعلّ أميركا التي لا بدّ من أن يكون مسؤولوها النابهون قد لاحظوا مدى اتساع تأييد شعوب العالم للشعب الفلسطيني المظلوم وغضبهم على استبداد “إسرائيل” وغطرستها، كما غضبهم ورفضهم لتأييد واشنطن الأعمى لها، لا بدّ من أن يخشى بعضٌ من هؤلاء المسؤولين من انعكاسات ذلك كله على وجود ونفوذ ومصالح أميركا في المنطقة فيبادرون الى الضغط على إدارة الرئيس بايدن لتقوم بدورها بالضغط على “إسرائيل” بغية وقف الحرب.
المقاربةُ الثالثة العنفيّة قوامها مبادرة حركة “حماس” وغيرها من أطراف محور المقاومة المقتدرين، فلسطينيين وغير فلسطينيين، الى تركيز القصف على مرافق اقتصادية مهمة في كيان الاحتلال ما يؤدّي تالياً الى تعطيلها والى ازدياد سخط الجمهور المستفيد من خدماتها فيضاعف ضغطه على حكومة نتنياهو لوقف الحرب.
أقرُّ، بلا تردّد، بأنّ هذه المقاربات الثلاث صعبة التنفيذ، سوى أنّ المقاربة الأولى، الذاتية، قابلة للتحقيق أكثر من غيرها لكونها لا تنطوي على دورٍ فيها للفلسطينيين أو لأطراف محور المقاومة. أما المقاربة الثانية، الإقليمية، فإنّ تحقيقها يتوقف على مدى تجاوب الحكام العرب مع شعوبهم الغاضبة والمؤيدة بلا حدود للشعب الفلسطيني ومقاومته الصلبة. الى ذلك، فإنّ المقاربة الثالثة، العنفيّة، يتوقف تحقيقها على مدى اقتدار حركة “حماس”، أيّ على مدى امتلاكها صواريخ دقيقة تمكّنها من التركيز والتصويب على المرافق الاقتصادية المهمة داخل كيان الاحتلال. كما تتوقف هذه المقاربة على مدى تجاوب “أنصار الله” في اليمن الذين يحالفون المقاومة الفلسطينية ويمتلكون صواريخ بعيدة المدى، على مدى دقتها المطلوبة لإصابة مرافق ذات أهمية اقتصادية في إيلات وسائر مناطق جنوب فلسطين المحتلة.
أخيراً وليس آخراً، يبقى أطراف محور المقاومة، القريب منهم من فلسطين المحتلة كما البعيد عنها، مسؤولين أمام شريكتهم “حماس” كما أمام شعوبهم عن مدى إسهامهم، لا سيما المقتدرين منهم، في دعم المقاومة الفلسطينية أو الإحجام عن دعمها وإسنادها بالطريقة المناسبة والمجدية في هذا المنعطف المصيري الذي تمرّ به القضية الفلسطينية.
*نائب ووزير سابق.
[email protected]