«السّيوف الحديديّة»… ومحاولة انتزاع أرواح أطفال فلسطين
} د. محمد الحوراني
«نحنا بفلسطين بنكبرش»، و»إنْ نجتْ يدي فهذا اسمي»، و»مرحباً، أنا هيا، وسأكتب وصيتي الآن»، «هاي أمّي بعرفها من شعرها»… جمل بسيطة في كلماتها، نازفة في حروفها ومخارجها، موجعة في أبعادها ودلالاتها وعمقها، منْ ثلّةٍ من أطفال فلسطين؛ الذين اختصروا أحلام الطفولة في فلسطين وواقعها، في ظلّ الحرب الإرهابية التي يشنّها الكيان الصهيونيّ على الشعب الفلسطينيّ، التي أطلق عليها اسم «السّيوف الحديديّة»، في ظلّ صمت رسميّ عربيّ مريع، ومساعدات غير مسبوقة للكيان المجرم من حلفائه في الغرب والشرق، وكثير من دول العالم؛ التي خرستْ ألسنتها عن التنديد بحرب الإبادة، التي يتعرّض لها أطفال فلسطين ونساؤها، أو طرْد سفراء الكيان المجرم وإغلاق سفاراته في الدول العربية والإسلامية، أو تلك التي تدّعي حرصها على حقوق الإنسان والانحياز إلى قضاياه العادلة.
نعم، لقد غدتْ أشلاء الأطفال والرّضّع والنّساء كابوساً، يخيّم على عيون كلّ منْ بقيتْ لديه بقيّة من أخلاقٍ وضمير في هذا العالم؛ الذي آثر دعْم القاتل المجرم والانحياز إليه، ومدّه بمختلف الأسلحة، التي من شأنها أن تجْهز على من بقي من أبناء الشعب الفلسطينيّ في غزّة وغيرها من الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وهو إجهاز يراد منه قتل الإرادة الفلسطينية والعربية الرافضة للاحتلال الصهيونيّ، ولـمحاولات أنْسنته من خلال التطبيع الذي طفا على السطح في السنوات الأخيرة، ولهذا فلا غرابة أن يكون عدد الشهداء من الأطفال والنساء هو الأكبر خلال الاعتداءات الصهيونية على فلسطين، منذ أكثر من سبعة عقود من عمر هذا الكيان المجرم، وهو ما يؤكّد رغبة الصهاينة في استئصال الأمل، وانتزاع الروح من أجساد أطفال فلسطين، إضافةً إلى إرهابهم وترويعهم لقتل رغبتهم في البقاء والتحرّر، التي غرستْها الأمّهات الصابرات حليباً روى طهر الأجساد الغضّة؛ التي ما عرفتْ شيئاً من جمال الحياة، ومتعة الطفولة وبراءتها، في ظلّ الاحتلال الغاصب.
هكذا هو الـمحتلّ الصهيونيّ الذي ما عرف إلّا الكذب والقتْل وتشويه الطفولة والجمال، وهو التشويه الذي لم يقتصرْ على أطفال فلسطين، بل تعدّاه ليصل إلى نشْر صورة مشوّهة لطفلٍ؛ زعم المجرم نتنياهو أنّها لطفلٍ صهيونيّ، وأنّ المقاومة الفلسطينية أحرقتْه، قبل أن يكشف الصحافيّ الأميركيّ جاكسون هينكل الحقيقة، ويؤكّد أنّ صورة الطفل المزعوم تعود إلى كلبٍ في عيادة طبٍّ بيطريّ، زيّـفـتْ بوساطة الذّكاء الاصطناعيّ.
ولعلّ منْ يتابع العدوان الصهيونيّ على الشعب العربيّ الفلسطينيّ، يدرك تماماً أنّها حرب على الطفولة والبراءة الفلسطينيّة، كما هي حرب على الأمّهات الفلسطينيات اللواتي أنجبْن المناضلين الرافضين للذّلّ والـمهانة؛ التي يحاول المحتلّ الصهيونيّ فرْضها على أبناء هذا الشعب الأبيّ المقاوم، وهي حرب شارك الرئيس الأميركيّ بايدن شخصيّاً في إذكاء نارها، وتشجيع القتلة الصهاينة على الاستمرار فيها، لـمّـا تحدّث أمام قادة الطائفة الأميركيّة قائلاً: «لم أتخيّلْ رؤية إرهابيّين يقطعون رؤوس الأطفال»، وهو ما أدّى إلى موجةٍ من الشّحن الهستيريّ في الداخل الأميركيّ، كانتْ سبباً في استشهاد الطفل الفلسطينيّ وديع الفيوم بعد أنْ طعنه أميركيّ مجرم ستّاً وعشرين طعنةً، إذ اقتحم منزل عائلة الطفل في ولاية إلينوي الأميركيّة، وبدأ بطعْنه وطعْن والدته، وهو يصرخ: «يجب أن تموتوا»، وهو موقف نابع من العقيدة التوراتيّة القائمة على قتل الأطفال والنساء والرجال من أبناء العرب عامّةً، وفلسطين خاصّة، هذه العقيدة التي عـبّـر عنها أحد حاخامات الصهاينة في أثناء هذه الحرب بقوله: «لا رحمة بالطفل لأنّه سيكبر، ويقتل، والتوراة تقول: امح أيّ ذاكرةٍ تماماً، أي الرجال والنساء والأطفال، امْحهمْ جميعاً». وهذا نابع من العقيدة الصهيونيّة في تحقيق نبوءات يوم القيامة، حسب زعمهم، ولهذا فإنّ قتْل الغزّيّين وإبادتهمْ مبرّران لدى الصهاينة، وهو ما أكّده المجرم الصهيونيّ عزرا ياخين العضو في منظّمة «شتيرن» الإرهابيّة، الذي دعا إلى إبادة أهل غزّة، بوصفهم «حيوانات بشريّة لا يستحقّون الحياة»، بل إنّه عمد إلى ارتداء الزّيّ العسكريّ الصهيونيّ، على الرغم من بلوغه خمسةً وتسعين خريفاً من عمره، موجّهاً نداءه العنصريّ إلى الجنود والمستوطنين الصهاينة؛ ورافعاً صوته بعقيدة القتل والإجرام الصهيونيّة: «هل لديك جار عربيّ؟ ادخلْ بيته، وأطلق النّار عليه». وهذه الحرب الدينيّة العنصريّة الصهيونيّة على أطفال فلسطين ونسائها هي التي دفعتْ الحاخام الصهيونيّ يعقوب يسرائيل إلى ارتداء الزيّ العسكريّ الصهيونيّ والالتحاق بصفوف القتلة الصهاينة.
إنّ ما يرتكبه الاحتلال الصهيونيّ من قتلٍ مـمنهـجٍ لأطفال فلسطين ونسائها ليس جديداً على آلة البطش الصهيونيّة؛ التي قتلتْ بدمٍ بارد الشّهداء الأطفال: محمّد الدّرّة، وإيمان حجّو، ومحمد التميمي، وآلاف الأطفال الأبرياء من أبناء الشعب الفلسطينيّ، لكنّ الإجرام الصهيونيّ بحقّ أطفال فلسطين ونسائها غدا أكثر عنفاً ودمويّةً وبطْشاً بعد ملحمة طوفان الأقصى، بل إنّ شريحة النّساء والأطفال غدت الأكثر استهدافاً من الصّواريخ والقذائف الصهيونيّة، وهو ما أدّى إلى استشهاد أكثر من خمسة آلاف طفل وامرأة فلسطينية، خلال عشرين يوماً من المجازر بحقّ الأبرياء في فلسطين، وهي المجازر التي جعلت الأمّهات الفلسطينيات يأملن أنْ يكون أطفالهنّ على قيد الحياة، كما هو حال أمّ يوسف التي كانت تبحث عن طفلها، وتصرخ بأعلى صوتها: «يا ربّ يكون موجود»، وهو الذي عرف بأنّ «شعْره كيرلي وأبيضاني وحلو»، في واحدة من أقسى الصور في طريقة تعرّف الأمّهات الفلسطينيات أطفالـهنّ.
أمّا منْ نجا من الأطفال من المجازر الصهيونيّة، فقد كان يرتجف من هوْل الكارثة وحجم المأساة، وهذا حال الطفل الفلسطينيّ كمال أبو الطير ذي الأعوام السبعة، الذي استشْهد والده ووالدته واثنان من إخوته، وأصيب البقيّة.
وفي البحث عن الأسباب الكامنة وراء قتْل الأطفال الفلسطينيّين، يؤكّد الكاتب الصهيونيّ يوسي كلا ين في صحيفة «هآرتس» أنّ هذا العمل الجبان يستهدف «إيقاع الألم بالفلسطينيّين، والمسّ بالنّقطة الأكثر حساسية لديهم، مع أنّ هذا لن يعني وقْف المقاومة المسلّحة، وإنما الهدف منه إسعاد الصهاينة لا أكثر».
إنّها السعادة القائمة على الولوغ في دم أطفال فلسطين وسفْكه، وهي سعادة القتلة برؤية أشلاء أطفال فلسطين تعانق ما بقي من آثار الطفولة المعذّبة، وهي آثار لا تتجاوز كسْرة خبزٍ تحاول طفلة أن تسدّ رمقها بها، أو تطعمها لطفل يتضوّر جوعاً، تماماً كما هو حال رضيع أسكتتْ صواريخ الحقد الصهيونيّ أنينه، بعد حصار طويل منعه من الحصول على أبسط حقوقه.
هذا هو واقع أطفال غزّة الذين ما عرفوا سعادة الطّفولة ولا رغد العيش، بل أصبح جلّ تفكيرهم يتمثّل في مساعدة منْ بقي على قيد الحياة في تعرّف جثثهم بعد الموت، ولهذا ابتكروا كتابة أسمائهم على أيديهم؛ لعلّها تساعد في التعرّف إليهم بعد استشهادهم، كما هو حال الطفلة آية عبد الرحمن شهوان التي كتبت اسمها ورقم بطاقتها الشخصية على كفّ يدها، ليمكن التعرّف إليها إنْ لم يتحوّل الجسد الطاهر إلى أشلاء، والكتابة إلى ذرّاتٍ تشهد على حقد المجرم ودمويّته.
إنّـها براءة الطفولة التي يقتلها الـمحتلّ الصهيونيّ حقداً وإجراماً، وضعفاً واستكانةً من نظامٍ رسميٍّ عربيّ وعالميّ لم تعدْ تـحرّكه أنهار الدم، التي يسبح فيها أطفال فلسطين ونساؤها، ولا أشلاء الأطفال والنساء ورؤوسهم الـمتطايرة في أنقاض القطاع الـمدمّر.
*رئيس اتحاد الكتاب العرب/ سورية