نقلات خطرة لكل طرف على رقعة شطرنج غزة
ناصر قنديل
يقول منظر علم الحرب كارل فون كلاوزفيتز، إنه من المؤلم تشبيه الحرب التي تزهق فيها الأرواح وتسفك فيها الدماء وتُدمّر فيها المدن والبيوت والمنشآت، بلعبة راقية نظيفة تعتمد على العقل والذكاء والتكتيكات المدروسة هي لعبة الشطرنج. فمن جهة نشبّه الحرب القائمة على القتل بلعبة راقية، ومن جهة نقوم بتشبيه موت الأطفال والنساء ودمار البيوت بمجرد لعبة، وتنقّل حجارة خشبية على رقعة قماش، لكن من الزاوية العقلية هناك الكثير من التشابه بين الحرب والشطرنج، وربما يكون هناك فارق كبير فقط، هو أنه في لعبة الشطرنج يبدأ الخاسر والرابح جولتهما الثانية من حيث بدآ جولتهما الأولى بإعادة رصف الحجارة حيث كانت، بينما في الحرب تستأنف الجولة الثانية من حيث انتهت الجولة الأولى.
في حرب غزة جولات شطرنج دمويّة، يبرز التفوق الإسرائيلي فيها بالسيطرة على عداد تدمير البيوت وقتل الناس، وهو يعرف أن هذا وفق لعبة الشطرنج الحاسمة في الحرب، مجرد توفير بيئة حماسية للاعبيه، وبيئة نفسية مؤلمة لخصومه، تماماً كأن يلعب فريقا الشطرنج جولاتهما، بينما جمهور أحد الفريقين يهاجم جمهور الفريق الآخر بالكراسي والطاولات والسكاكين. فهذا لا يغير مما يجري على رقعة الشطرنج، لكنه قد يؤثر على معنويات اللاعبين، وربما يكون التأثير بعكس التوقعات، فيزداد الفريق الذي يتعرّض جمهوره للطعن والأذى عزيمة وإرادة لتحقيق الفوز لتعويض جمهوره عن آلامه بنشوة النصر وطعمه الذي ينسيه الألم.
النقلة التي افتتحت المباراة بين اللاعب الفلسطيني واللاعب الإسرائيلي، كانت فلسطينية، أصابت خلالها قوات القسام الحجر الركن في لعبة الشطرنج على الضفة الإسرائيلية، وهو الوزير الذي أطيح على حين غرّة، فكانت ضربة السابع من تشرين الأول نكسة صعبة التعويض دون نصر كبير، ما لم نقل نصراً حاسماً يعلن نهاية المباراة بـ كش ملك، مات الملك. وبعد هذه الضربة الخاطفة المؤلمة على رقعة الشطرنج، شهدنا أكثر من نقلة لكل من الفريقين، كان أبرزها قيام الفريق الإسرائيلي بالتقرّب من حجارة الفريق الفلسطيني حاشداً كل حجارته العادية والاستثنائية، حيث الدبابات والجنود والضباط والمدفعية والمدمرات البحرية والطائرات الحربية والمسيرة، وعندما جاء دور النقلة الموازية للفريق الفلسطيني، كانت نقلة القسام نحو ايريز، بما يمكن تشبيهه بنقلة الحصان على رقعة الشطرنج، موقعاً خسائر معنوية ومادية جسيمة بالفريق الإسرائيلي.
جاء دور الفريق الإسرائيلي لتظهير قوته وعزيمته وحسن استخدام قدراته التي قام بحشدها، فتحرك نحو عدو أطراف لغزة، مركزاً هجومه على الوسط باندفاعه نحو شارع صلاح الدين، متقدّماً في مناطق زراعية بعمق ثلاثة كيلومترات، لكن الفرحة لم تكتمل، فبعد معارك امتدّت لساعات بعد الظهر أجبر على سحب دباباته الى خلف الخط الفاصل بين غزة وغلافها، ولحقت بالفريق الإسرائيلي خسائر جسيمة معنوياً ومادياً. ووفق لغة الشطرنج قام الفريق الإسرائيلي بحشد الملك والقلعة والجنود دون تغطية وحماية خلفية خوفاً من حجم الخسائر، بينما هاجمه الفريق الفلسطيني بالحجارة النوعيّة على رقعته، مستخدماً الوزير والبهلول والحصان، والنتيجة كش ملك، فتمّ سحب الملك إلى الخلف.
قام الفريق الفلسطيني بنقلة رابحة في ملف الرهائن عبر الشريط المسجّل لثلاث نساء في خطاب هجوميّ ضد رئيس حكومة الكيان بنيامين نتنياهو، واتهامه بالسعي لقتل الرهائن حفاظاً على مصلحته السياسيّة، فردّ الفريق الاسرائيلي بالاستعانة بمجندة هاربة من الخدمة، كانت تختبئ في النقب وقامت بتسليم نفسها، وزعم أنها رهينة تمّ تحريرها خلال العملية البرية، قبل أن تفضحه مواقع إعلامية إسرائيلية جاءت بشهود على الرواية واستحضرت لوائح المفقودين والرهائن وليس للمجندة اسم ولا صورة فيها، لتقع خسائر معنوية جسيمة بالفريق الإسرائيلي حيث أراد تحقيق ربح إضافي، كمن خسر الحصان لأنه أراد إنقاذ البهلول.
عملياً ما يجري في التفاوض هو تتمة لما يجري فوق رقعة الشطرنج. فالفريق الفلسطيني يعرض على الفريق الإسرائيلي صفقة تعادل القبول بالانسحاب من المباراة مقابل تسجيل تعادل بدلاً من مواصلة لعبة سوف تنتهي بخسارة كاملة، بينما يعرض الفريق الإسرائيلي على الفريق الفلسطيني التسليم بالخسارة وهو رابح، مقابل عدم قيام جمهور الفريق الإسرائيلي بالتنكيل مجددا بجمهور الفريق الفلسطيني، وإيقاع المزيد من الآلام بين صفوفه.