ثمة ما يستدعي الاعتذار وثمة ما يحتاج إلى إعادة نظر
ناصر قنديل
– خلال سنوات وثمّة من يستثمر على الانقسام الذي تسبب به موقف قيادة حركة حماس من الحرب على سورية، ليشيع مناخاً من عدم الثقة في العلاقة بين محور المقاومة وفي طليعته حزب الله، وحركة حماس بقيادتها الجديدة، خصوصاً مع دور محوري في قرارها لقيادة قوات القسام وقيادة غزة. هناك مَن يستثمر على عدم الثقة على الضفة الفلسطينية والحمساوية بصورة خاصة بجدية وصدقية مواقف حزب الله مع المقاومة في غزة، وهناك من يستثمر على الضفة الموازية في ساحات محور المقاومة، وخصوصاً سورية ولبنان، للتشكيك بصدقية وجدية قيادة حماس وموقعها من خيار المقاومة. وقد جاءت الأحداث الأخيرة لتقول بالوقائع، إن قيادة حماس والقسام تضع خيارها المقاوم في مقام الأولوية، وهذا هو طوفان الأقصى يتكلم، وبالمقابل فإن محور المقاومة وحزب الله خصوصاً، عندما تعرّضت حماس وغزة للعدوان، كان الوحيد الذي ترجم الأقوال بالأفعال، التي عبّرت عنها الدماء. وهذا يعني أن على كل حريص على فكرة المقاومة ومحورها خصوصاً، إن كان قد شكك بصدقية حماس، أو شكك بصدقية حزب الله، خصوصاً إذا فعل ذلك علناً، أن يعتذر ليرمّم ما قام بتخريبه علامة حسن نية.
– خلال سنوات أيضاً كانت الحرب على اليمن موضوع انقسام في الساحة السياسية العربية، الوطنية والقومية والإسلامية، وقد نال أنصار الله الكثير من الذي في هذا النقاش، فجرّدت الحركة من الوطنية والقومية، باعتبارها حركة إسلامية. ثم جردت من إسلاميتها بداعي تشيّعها. والأهم ما تضمنه هذا النقاش من مقاربات تقول إن أنصار الله أضعفوا التماسك العربي، وقاموا بزعزعة الأمن القومي العربي، وعندما جاءت أحداث غزة الأخيرة، والعدوان المفتوح على فلسطين وشعبها ومقاومتها، ارتسم مضمون للأمن القومي العربي، لا يستطيع أحد المجادلة بصحته، هو الوقوف بوجه كيان الاحتلال. وبينما كانت الدول العربية الكبرى تغطّ في نوم عميق، وتتوزع بين العجز والتآمر، كانت حركة أنصار الله تخرج ومؤيديها في تظاهرات لم تشهد مثلها عاصمة عربية أخرى، تعلن الوقوف مع فلسطين، وتوّجتها عمليات إطلاق صواريخ وطائرات مسيرة نحو منشآت كيان الاحتلال، مرة تلو المرة، في تعبير نادر، لم تجرؤ عليه دول تملك أضعاف أضعاف قدرة اليمن، وأضعف الإيمان مطالبة الذين شككوا بصدقية التزام اليمن بالأمن القومي العربي أن يعتذروا منه ويعترفوا له بأنه الطليعة العربية في ترجمة هذا المفهوم الذي ليس له إلا بوصلة واحدة هي فلسطين.
– في لبنان ومنذ ترسيم الحدود البحريّة جنوباً، ونجاح حزب الله بفرض الأخذ بمطالب الدولة اللبنانية، هناك معزوفة نشرها خصوم حزب الله، تقول بأن الحزب عقد صفقة مع كيان الاحتلال على هدوء دائم في الجبهة الحدودية. ومَن يذهب أبعد من ذلك بالقول إن حزب الله يقيم ترتيبات أمنية على الحدود، وبعض تحدّث عن تطبيع بين الحزب وكيان الاحتلال، وصولاً إلى من قال إن الصفقة إيرانية إسرائيلية على تقاسم نفط وغاز المتوسط، ومنذ أكثر من ثلاثة أسابيع يقدّم الحزب يومياً الشهداء ويدمّر المواقع والدبابات والتجهيزات الإسرائيلية على طول امتداد الخط الحدودي، وهؤلاء في أغلبهم يقولون إن حزب الله يريد توريط لبنان في حرب لا حاجة له للتورط بها، وهؤلاء حتى إذا بقوا على تحذيرهم لحزب الله من الذهاب الى الحرب مطالَبون بالاعتذار من حزب الله على اتهامهم له بالترتيبات الأمنية والتطبيع، وقد ثبت أن ذلك افتراء، بل هو كذب.
– تعرّضت سورية ودولتها ورئيسها للكثير من التعدّي والأذى على ألسنة مثقفين وتيارات فكرية وسياسية عربية، بداعي أن صمود الدولة والرئيس والجيش ووقوف الحلفاء معهم، تسبّب بإحباط مشروع تغيير ديمقراطي في سورية. وإذا وضعنا جانباً السؤال عن ماهية خيار ديمقراطية تتقاسم تطبيقه حركة الأخوان المسلمين وتنظيم القاعدة بفرعه السوري جبهة النصرة، فإن ما جرى في غزة طرح السؤال، ماذا لو لم تكن سورية قد نجحت في إسقاط مشروع الاستهداف المسمّى بالخيار الديمقراطي، ألم نكن سوف نشهد انتقال الحكومة التي تمثل المعارضة السورية والمنتمية الى حلف عربي ودولي يشترك اليوم بالمؤامرة ضد غزة وتبرير العدوان عليها، إلى صف التطبيع مع كيان الاحتلال، وتشكيل حاجز يقطع طرق إمداد المقاومة في لبنان، ويقطع التواصل بين أجنحة المقاومة في لبنان والعراق، فندرك اليوم أكثر أهمية إفشال مشروع إسقاط سورية، وأهمية صمود سورية ورئيسها وجيشها، بل تثبت حقيقة الصلة بين حرب إسقاط سورية، وأمن كيان الاحتلال.
– خلال سنوات كان الكثير من المثقفين العرب يعتبرون أن مفهوم الدولة السيدة يجب أن يتقدّم على مفهوم المقاومة. وفي هذا السياق كان انتقاد لحالات حزب الله في لبنان وحماس في غزة وأنصار الله في اليمن والحشد الشعبي في العراق. وفي ضوء مشهد غزة وتداعياته العربية، يبدو بوضوح أنه ما لم تكن لنا هذه المقاومات فلا وجود للسيادة، فليس ثمة من يجرؤ على مواجهة كيان الاحتلال، إلا هذه المقاومات، حتى صحّ السؤال عما إذا كانت لدينا دول أصلاً حتى نسأل عن تمتعها بالسيادة. فما لدينا مجرد سلطات حاكمة وليس دولاً، ولذلك ليس للسيادة من عنوان إلا المقاومات لأنها حامل طبيعي للسيادة عندما تغيب الدولة، وامتلاك الدولة لقرار الحرب والسلم عبر المقاومة، أفضل من تخلّيها عنه للأميركي عبر السلطة الحاكمة، كما تقول حال أغلب الدول العربية التي ليس فيها مقاومة، وأغلب أحوال السلطات الحاكمة حيث هناك مقاومة. وهذا يستحق إعادة نظر في مفهوم الدولة والسلطة والمقاومة والسيادة وقرار السلم والحرب، وفق معادلات تُنصف الواقع الذي أظهرته مرحلة طوفان الأقصى.
– في مرات كثيرة كان الغرب يتلو علينا نصاً يقول بأن الديمقراطية ليست انتخابات فقط، مستنداً إلى قراءة تقول إن تركيبة القوى الفائزة بالانتخابات ليست ديمقراطية، ما يبرّر رفض احترام فوزها بصفته تعبيراً ديمقراطياً، وكان معيار حقوق الإنسان من باب الحريات هو المدخل المعتمد للطعن بالطبيعة الديمقراطية للقوى الفائزة، خصوصاً القوى الإسلامية، وقد حدث هذا عندما فازت حركة حماس بالانتخابات الفلسطينية، أما وقد جاء الامتحان لديمقراطية الغرب نفسه، من باب معادلة أن الديمقراطية ليست انتخابات فقط، بل سلوك ديمقراطي خصوصاً في مجال حقوق الانسان، فإن مواقف أغلب الحكومات الغربية من مذبحة غزة، ومن حركة الشارع الغربي المتضامن مع غزة وفلسطين، أسباب كافية للقول بسقوط الديمقراطية الغربية كمفهوم.
– كثيرة هي الأشياء التي تتغيّر تحت تأثير الحقائق الخارجة من رحم الحدث الكبير الذي فجّره طوفان الأقصى، وكثيرة هي الأشياء التي تستحق الاعتذار، وكثيرة هي الأشياء التي تحتاج إلى إعادة نظر.