توحد مسرح العمليات مع تعدّد الجبهات المتساندة يرسم الطريق إلى التحرير…
} العميد د. أمين محمد حطيط*
في الوقت الذي تشكل فيه الولايات المتحدة الأميركية الأحلاف الدائمة أو العارضة من أجل تنفيذ مهام عسكرية واستراتيجية تراها لمصلحتها وتقسم العالم إلى مسارح عمليات تنشر فيها قواتها خارج الأراضي الأميركية، فإنها تنكر على المستهدفين بخططها اللقاء في تحالفات وتفاهمات دفاعية تتيح لهم التعاون والتنسيق او الإسناد المتبادل دفاعاً عن دولهم وبلدانهم وأوطانهم وعن حقوقهم في تلك الأوطان.
وعلى سبيل الإيضاح في ما يعني منطقتنا اعتمدت الولايات المتحدة الأميركية تسمية “المنطقة الوسطى” لتكون مسرح عمليات عسكرية واحداً يشمل معظم دول الشرق الاوسط (وضمّت إسرائيل مؤخراً إليها) وتعمل فيها تشكيلات أميركية تنتشر في قواعد عسكرية تجاوزت الـ 54 قاعدة يعمل فيها ما يربو على 60 ألف جندي وضابط يسندهم أسطولان بحريان دائما الانتشار في مياه المنطقة (الخامس في الخليج والسادس في المتوسط والسابع على مقربة منهما) مع قابلية التعزيز والدعم بعدد من حاملات الطائرات والغواصات المتعددة والمتفاوتة القدرات، كلّ ذلك من أجل تأمين حماية المصالح الأميركية في المنطقة بشكل مباشر أو عبر مساندة الحلفاء والشركاء والتابعين الإقليميين.
لكن قوى التحرر والاستقلال في المنطقة والتي تلاقت على هدف رفض السيطرة الأميركية وعدم الخضوع لسياسة الاستتباع والإلحاق الأميركي، هذه القوى التحررية أدركت انّ مصالحها تكمن في تحشيد الطاقات وجمع القدرات وتنسيقها وإسقاط سياسة التفتيت والتقسيم والتجزئة التي تفرضها أميركا على من لا يواليها، ولذلك شكلت هذه القوى ومن غير صكّ مكتوب يستند اليه في إنشاء الأحلاف العسكرية شكلت عبر تفاهمات ولقاءات وتنسيق مباشر ما اصطلح على تسميته “محور المقاومة” أي مقاومة العدوان الصهيو ـ غربي، او “محور الممانعة” أيّ ممانعة السياسة الاستعمارية بقيادة أميركا ومنع الأخيرة من إقامة شرق أوسط جديد أميركي الهوية يتيح لأميركا وضع اليد والسيطرة على المنطقة بما فيها من مخزون واحتياط البترول العالمي والممرات الدولية الاستراتيجية بين الشرق والغرب.
وقد نجحت قوى محور المقاومة في أدائها وبشكل ملحوظ في مواجهة الحرب الكونية على سورية، حيث عملت بعض من تنظيماتها وفصائلها الى جانب الجيش العربي السوري وأدّت مهام مميّزة، وأرسلت إشارات ميدانية مضمونها جهوزية المحور للعمل المشترك او مساندة بعضه بعضاً.
بيد انّ ما يحصل الآن على صعيد مواجهة العدوان الصهيوني التدميري الذي يستهدف قطاع غزة، يتميّز في طبيعته ودلالاته عن كلّ ما سبق، حيث يسجل في هذا الإطار ما يلي:
أولاً: تبلور مسرح عمليات مقاومة واحد بجبهات متعدّدة ومهام متنوّعة في طبيعتها وأنواعها، مسرح عمليات يشمل من الشمال إلى الجنوب كلاً من العراق وسورية ولبنان وفلسطين واليمن وعمقه الشرقي الاستراتيجي المتمثل بإيران، مسرح عمليات يمكن القول إنه يشكل رغم تفاوت القدرات والمساحة، رداً ميدانياً واستراتيجياً على مسرح عمليات القيادة الوسطى الأميركية، لكن أميركا ترفض تشكل الظروف التي تجعل من هذا المسرح حقيقة قائمة وهي تحت تسمية “منع توسّع الحرب” تحاول الحؤول دون تشكل هذا المسرح وتحوّله الى ميدان عملاني نشط يشهد عمليات منسقة او متنوعة.
ثانياً: توزّع المهام والأدوار بين القوى على الجبهات المتعددة في مسرح العمليات الواحد وفي حين تعتبر الجبهة الفلسطينية في قطاع غزة هي الجبهة الأساسية التي تواجه العدوان واختصت الجبهات الأخرى في لبنان والعراق وسورية واليمن بمهمة الإسناد وتحوّلت الى جبهات مساندة لإنتاج الضغط المتعدّد المفاعيل الذي من شأنه وقف العدوان وتقصير أمد الحرب على القطاع ومنع العدو من تحقيق أهدافه من العدوان.
ثالثاً: محور المقاومة انطلاقاً من أدائه في مسرح عملياته في غربي آسيا، أربك المحور الاستعماري في المنطقة ورغم التفاوت المؤكد في الإمكانات والقدرات بين القوى المتواجهة في المسرحين، فإننا نجد انّ قوى المقاومة والممانعة وبحكم طبيعة مهامها الدفاعية (حتى ولو اتخذت بعض عملياتها الشكل الهجومي فهي تبقى هجوماً في معرض الدفاع)، أنّ هذه القوى قادرة على أداء مهامها وقد حققت في حرب “طوفان الأقصى” نجاحات هامة يمكن البناء عليها لتوقع نتائج المواجهة الميدانية القائمة، حيث نسجل هنا للجبهات النشطة ما يلي:
1 ـ الجبهة الرئيسية: الجبهة الفلسطينية وعملياتها في قطاع غزة، نجحت هذه الجبهة في إحداث الزلزال الكبير في 7 تشرين الأول/ أكتوبر الفائت ولا تزال صلبة قوية متماسكة في حربها الدفاعية على أرض القطاع، حيث منعت حتى الآن العدو الإسرائيلي من تحقيق أيّ من أهدافه الثلاثة (تحرير الأسرى وتفكيك المقاومة وتهجير السكان) كما منعته من تحويل اختراقه البري الى احتلال آمن ومستقرّ، ووضعت القوى المعادية التي دخلت شمال القطاع في مصيدة فرضت عليها أن تختار بين التملص والانسحاب او الموت.
2 ـ الجبهة المساندة الأولى وهي جبهة لبنان/ فلسطين المحتلة، نجحت هذه الجبهة عبر استراتيجية الضغط التصاعدي في إرغام العدو على تجميد ما يكاد يصل الى نصف قدراته العسكرية والقتالية (بين 1/3 و 1/2) ما خفف الضغط العسكري عن قطاع غزة، كما نجحت في التأثير على الحياة في شريط بطول 50 كلم وعرض 7 كلم (تقريباً مساحة قطاع غزة البالغة 365 كلم2)، حيث تمّ تهجير السكان وتراجع العمل في القطاعات الإنتاجية الزراعية والصناعية والسياحية بشكل من شأنه أن يحدث ضغوطاً على السلطة الإسرائيلية لوقف الحرب دون تحقيق الأهداف.
3 ـ الجبهة المساندة الثانية وهي جبهة سورية والعراق في مواجهة القواعد الأميركية ومهمتها الضغط على أميركا التي بدت من خلال تصرفات مسؤوليها العلنية بأنها لا تساند «إسرائيل» فقط، بل وتقود العدوان مباشرة وتشارك في كلّ جزئياته التنفيذية. وبالفعل أحدثت هذه الجبهة بصواريخها ومُسيّراتها قلقاً أميركياً على سلامة العسكر الأميركي المنتشر في قواعد في سورية والعراق، بما أحدثته من خسائر وإصابات في صفوفهم، وتكمن أهمية هذه الجبهة في ما تحمله من ضغط على الأميركي لوقف الحرب ومنع «إسرائيل» من متابعة عدوانها.
4 ـ الجبهة المساندة الثالثة، وهي جبهة اليمن التي أحدثت صدمة ومفاجأة هزت العدو، خاصة مع وصول مُسيّراتها الى أمّ الرشراش «إيلات» في فلسطين المحتلة ثم كان العمل الأهم ذو الرمزية الاستراتيجية العليا وهو احتجاز سفينة تجارية «إسرائيلية» في البحر الأحمر بيد يمنية ما أنتج مشهداً هزّ الكيان المؤقت في أمنه الحيوي وحركة اقتصاده في مجاله الحيوي الاستراتيجي وأرسى مشهداً من شأنه ان يفرض ضغطاً لوقف هذا العدوان.
إنّ تبلور مسرح عمليات المقاومة غربي آسيا ونجاح الجبهات المتعددة القائمة فيه يؤسّس لمرحلة جديدة في المنطقة أهمّ ما فيها هو سقوط السياسة الاستعمارية القائمة على التجزئة والتفتيت والانتقال من وضع “فلان اولاً” إلى وضع “الأمة كلها أولاً” و”المنطقة كلها أولاً”، وبهذا يصدق القول بانّ القضية الفلسطينية قضية الأمة وحولها تتوحّد الأمة وتتحرّر، هدف بات في متناول اليد بعد أن عرفت الطريق وتوفرت الإرادة…
*أستاذ جامعي ـ خبير استراتيجي