روسيا تدفع «بريكس» لإعادة هيكلة النظام الاقتصادي العالمي
} د. أحمد الزين
ربّما تشعر البشريّة الآن، بشكل جدّي، بما يمرّ به الاقتصاد العالمي من تضخّم بدأ يرمي بثقله على مختلف مناحي الحياة الإنسانيّة، ولعلّ هذه الحروب المتنقّلة من العراق إلى سورية وصولاً إلى غزّة وما سيتلوها، إنّما هي في بعض أوجهها حروب اقتصاديّة تتعلّق بنهب الثروات، وتنفيذ مشاريع دوليّة تسعى إلى الاستحواذ، والسّيطرة على ما تختزنُه الأرض، وما تحويه البحار من ثروات تمكّن القابض عليها من القبض على جانب من الاقتصاد العالمي علّ ذلك يخفّف عنه بعضاً من أعباء التّضخّم الّذي هو أحد أبرز سمات اقتصادات الدّول في الفترة الرّاهنة.
والحقيقة أنّ العامل الاقتصادي يشكّل التّحدّي الأكبر بالنّسبة لغالبيّة دول العالم اليوم، سيّما وأنّه يمسّ حياة النّاس، واستطراداً فإنّ المتحكّم اقتصاديّاً سيكون هو الأقدر على فرض مشاريعه، وثقافته وقيمه على العالم بأسره، وقد لاحظنا في السّنوات الأخيرة كيف أنّ بعض الدّول استطاعت أن تنال في الضّغوط الاقتصاديّة ما لم تستطع نيله في الحروب الصّلبة محقّقة من وراء ذلك أهدافاً سياسيّة، واقتصاديّة، وثقافيّة، وقيميّة ما كان لها أن تحقّقها لولا ما تمتلكه من مفاتيح استطاعت من خلالها التّحكّم في اقتصادات الدّول المستهدَفة.
هكذا فإنّه في ظلّ ما يمرّ به العالم من ركود اقتصادي لم يسبق له مثيل، وقد كانت جائحة كورونا وما نتج عنها من توقّف للأعمال ونفقات طارئة أحد أبرز أسبابه وتجلّياته في آن معاً، وفي ظلّ هذه الحروب المتنقّلة التي تفرض تحالفات عالميّة ذات طابع عسكري واقتصادي، في ظلّ كلّ ذلك تتبدّى أهمّيّة التّكتّلات الاقتصاديّة التي تطال مختلف مناحي حياة الشعوب المنضمّة إليها.
وتأتي على رأس التكتّلات الصّاعدة مجموعة “بريكس” الّتي تألّفت ابتداءً من خمس دول هي: الصّين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، ومن ثمّ توسّعت بانضمام ستّ دول جديدة هي إيران والسّعوديّة والإمارات العربيّة المتّحدة ومصر والأرجنتين وإثيوبيا التي ستصبح دولاً دائمة العضويّة في التّكتّل اعتباراً من الأوّل من كانون الثاني 2024.
وإن كان يُنظَر إلى مجموعة “بريكس” في البداية على أنّها اتّحاد غير وثيق الترابط لاقتصادات ناشئة متباينة، فإنّها قد اتّخذت، معالم أوضح في السّنوات القليلة الماضية بعدما تلقّت دعماً صينيّاً، وزخماً إضافيّاً من روسيا، وللحقيقة فإنّ هذا الزّخم الروسي قد أعطى لتكتّل بريكس دفعاً قويّاً أتاح له التّقدّم ليكون في طليعة التكتّلات الاقتصاديّة على مستوى العالم.
والحقيقة أنّ أكثر ما يتميّز به تكتل بريكس هو انّ غالبيّة الدّول المهتمّة بالانضمام إليه هي من دول الجنوب مع ما يكتنزه الجنوب من ميزات ودلالات، فناهيك عن كون دول “بريكس” في أغلبها ذات مساحات شاسعة على المستوى الجغرافي: روسيا، الصين، الهند… وذات كثافة سكّانيّة عالية، وثروات كثيرة ومتنوّعة قادرة في حال تكاملت في ما بينها على بثّ الروح في الاقتصاد العالمي الواقف على شفير الانهيار، فإنّ انضمام دول كإيران والسعوديّة ومصر سيعزّز قدرات هذا التّكتّل لما تكتنزه هذه الدّول من ثروات بشريّة ومادّيّة.
في المقابل فإنّ العالم يلحظ بلا شكّ التّضخّم الاقتصادي الحاصل في الغرب وقد بات ما تعانيه أوروبا من تضخّم اقتصادي، قاد إلى تبعيّة سياسيّة مطلقة للولايات المتحدة معروفاً لدى الجميع، وبات أيّ شخص عادي لا باع له في السياسة يعرف أنّ أوروبا لم تعد ذات ثقل سياسي وازن، هذا ناهيك عن حرب أوكرانيا التي صبّت الزيت على نار أوروبا الملتهبة اقتصادياً، والخروج الفرنسي من أفريقيا، وما ستسفر عنه حرب غزّة من نتائج لا أحد يعرف تداعياتها، مع كلّ هذا الانحياز الغربي السّافر إلى “إسرائيل”، كلّ ذلك قاد وسيقود حكومات وشعوب الجنوب إلى البحث عن بدائل اقتصاديّة على أمل أن يقودها ذلك إلى الاستقلاليّة السياسيّة المطلوبة.
يبقى أنّ العالم بأسره يعيش حالة من الغليان، وحالة من اليقين بفشل النّظام العالمي القائم في تحقيق الأمن والعدالة لشعوب الأرض، هذا ناهيك عن انعدام الأمن الغذائي، وسوء توزيع الثروات بين الشمال والجنوب، وغيرها الكثير ممّا لا مجال لذكره، وبالتّالي فإنّه يتطلّع بأمل إلى كلّ محاولة لتقديم بدائل لربّما قادت إلى تغيير ما هو قائم أو على الأقلّ جعله يهتزّ.
وفي الوقت الذي نرى فيه أوروبا وأميركا تفرضان حالة من التنافس والتّغوّل الاقتصادي المحموم نرى دولاً أخرى كالصّين والهند، وروسيا… تفرض حضورها على السّاحة العالميّة من خلال اقتصاداتها الصّاعدة.
ختاماً، يؤكد مصدر مطلع في موسكو أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعوّل على “بريكس” لتغيير الخارطة الاقتصادية العالمية، وذلك بالنّظر للأسباب التي سبق لنا ذكرها من حيث كون هذا التّكتّل يضمّ أكثر الدول تقدّماً في المجال الاقتصادي كالهند، والصين، ولكونه يتمتّع بقيادة عسكرية وسياسية روسية ذات رؤية بعيدة المدى استطاعت أن تعيد أمجاد الاتحاد السوفياتي.
في ظلّ كلّ ذلك نرى أنّ دول “بريكس” التي تجمع بين المساحات الجغرافية الشّاسعة والكثافة السّكّانيّة والثروات الطّبيعيّة والتّطوّر التّكنولوجي والعسكري ستكون في السنوات القليلة المقبلة البديل القادر على أن يغطّي كلّ فراغ اقتصادي أو سياسي أو حتّى عسكري يمكن للغرب المتراجع أن يتركه، تمهيداً لبناء نظام عالمي جديد يكون أكثر توازناً وأكثر استجابة لتطلّعات الشّعوب.