مأزق دعاة السلام والتطبيع المزعوم !!
} د. محمد سيد أحمد
ما فعله العدو الصهيوني في غزة على مدار الخمسين يوماً الماضية من حرب إبادة للشعب العربي الفلسطيني، أعاد للقضية الفلسطينية روحها التي اعتقد العدو الصهيوني أنه قد انتزعها قبل ما يزيد عن عقد ونيّف عندما انطلقت موجة الربيع العربي المزعوم في نهاية العام 2010 وبداية العام 2011، وأصبحت القضية الفلسطينية في طي النسيان، وأصبح كل قطر عربي بما فيه دول الطوق منشغلاً بالأحداث الدامية التي أصابته من الداخل نتيجة المؤامرة الأمبركية – الصهيونية التي تمت حياكتها ببراعة فائقة، وخلال تلك السنوات السوداء قام العدو الصهيوني بممارسات عدوانية مجرمة في حق شعبنا العربي الفلسطيني، حيث تمّت عمليات التهويد وبناء المستوطنات وإعلان القدس عاصمة أبدية للكيان الصهيوني المحتلّ، في ظل عجز عربي واضح وصمت مريب.
وفي ظل هذه الأجواء قام العدو بتوقيع عدد من اتفاقيات السلام والتطبيع المزعومة مع عدد من الدول العربية التي لم تكن يوماً منخرطة بشكل أو آخر في عملية الصراع مع العدو الصهيوني، فشاهدنا قبل ثلاث سنوات تطبيعاً علنياً مع الإمارات العربية المتحدة، ثم البحرين ثم المغرب ثم السودان، وكان الجميع ينتظر توقيع المملكة العربية السعودية على الاتفاقيات نفسها بعد تسريب العديد من الأخبار حول مفاوضات سرية تتم بمباركة أميركية. لكن جاءت عملية طوفان الأقصى في ٧ أكتوبر الماضي لتقلب الموازين، وتعيد للقضية الفلسطينية روحها، وتشعل جذوتها من جديد، ويردّ العدو الصهيوني على العملية بعدوان غاشم، جعل كل دعاة السلام والتطبيع المزعوم عاجزين للدفاع عن حليفهم الصهيوني.
وتمكّنت المقاومة الفلسطينية البطلة والشجاعة من تكبيد العدو الصهيونيّ خسائر هائلة، وذكّرتنا عملية طوفان الأقصى في ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ بانتصار ٦ أكتوبر ١٩٧٣، حيث انهارت أسطورة الجيش الذي لا يقهر، ولم يتمكن العدو الصهيونيّ على مدار ٥٠ يوماً من تحقيق أهدافه المعلنة في غزة رغم كل التدمير الذي أصاب البشر والحجر والشجر، واضطر صاغراً بقبول الهدنة بشروط المقاومة، وهو ما يعني انتصار المقاومة على العدو الصهيونيّ في هذه الجولة الجديدة من جولات تحرير التراب الوطني الفلسطيني المحتل والمغتصب، وعشية إعلان الهدنة انطلقت الآلة الإعلاميّة في كل مكان على سطح المعمورة لتستضيف المثقفين والخبراء والمحللين السياسيين المهتمين بالقضية التي شغلت الرأي العام العالمي لمدة ٥٠ يوماً متصلة ليدلوا بدلوهم ويرسموا سيناريوات المستقبل القريب والبعيد.
وكان من حظي الدعوة من قبل إحدى أهم القنوات الفضائية المصرية في ندوة تضم خمسة كتاب وصحافيين مصريين من الوزن الثقيل، أحدهم وزير سابق، وآخر رئيس مجلس إدارة أقدم مؤسسة صحافية مصرية وعضو مجلس شيوخ، وثالث رئيس تحرير مؤسسة صحافية شهيرة وعضو مجلس شيوخ، ورابع رئيس تحرير أهم مؤسسة صحافية خاصة، وخامس خبير إعلامي، وكان عنوان الندوة «حرب غزة.. والمناظرات الفكرية الكبرى». وكان السؤال الرئيس هو هل ما زال هناك أمل في السلام والتطبيع مع العدو الصهيوني؟ أم أن ما خلفته عملية طوفان الأقصى وما تبعها من عدوان صهيونيّ غاشم يبدّد كل أمل في إمكانية العودة مرة أخرى للسلام والتطبيع مع هذا العدو؟
وفي مقدّمة الندوة أكد المذيع الذي يديرها أنه في اليوم نفسه كان قد أعلن أحد أهم دعاة السلام والتطبيع في مصر تراجعه عن موقفه المؤيد والداعم للسلام والتطبيع المزعوم مع العدو الصهيوني، وهو ما جعله وفريق إعداد البرنامج يرون ضرورة مناقشة عملية المراجعات الفكرية الكبرى لهذه الأطروحة. وبالطبع كانت الغلبة داخل الندوة لتيار السلام والتطبيع، حيث وجدت نفسي في خندق منفرد، في حين تخندق المذيع والخمسة ضيوف الآخرين بدرجات متفاوتة في خندق التمسك والاستمرار في عملية السلام والتطبيع مع العدو الصهيوني.
وحاول المذيع وضيوفه عبر المساحة الممنوحة لهم تشتيتنا لنبتعد عن جوهر الموضوع، لكنني في ضوء المساحة المحدودة الممنوحة لي تمكّنت من دحض كل ادعاءاتهم، حيث عدتُ بالموضوع لأصل القضية، وأثبت أن العدو الصهيونيّ في الأصل محتل ومغتصب للأرض، وأن عملية الاغتصاب تمّت تحت مظلة دولية بالقرار ١٨١ الصادر عن هيئة الأمم المتحدة في عام ١٩٤٧ والذي مكّن العدو من إقامة دولة مزعومة على ٥٥٪ من مساحة أرض فلسطين. فكيف أقنع مغتصباً يرى وفقاً لمعتقداته الصهيونية أن هذه الأرض جزء من دولته الكبرى التي وعده بها «الرب» والتي تقع بين النيل والفرات؟! والغريب حقاً أن كل من ينادي بتطبيق القانون الدولي ومقرّرات الشرعية الدولية – غير العادلة وغير الشرعية – والتي تقرّ بحل الدولتين هو بالأساس يعترف ويشرعن الاحتلال والاغتصاب، وبالتالي كل مَن يعترف وينادي بالسلام والتطبيع مع العدو الصهيوني يكون معادياً للشعب العربي الفلسطيني، ذلك لأن حق الشعب الفلسطيني هو كامل الأرض الفلسطينية الممتدة من النهر إلى البحر.
وبالتالي لا يجوز السلام والتطبيع مع العدو الصهيونيّ، لأن عملية السلام والتطبيع معه عملية وهمية. فهو يعتبر معركتنا معه معركة وجود وليست حدود، ونحن أيضاً لا بد أن نتعامل معه على الأرضية نفسها. فهذه الأرض الفلسطينية المحتلة لا يمكن أن تتسع لنا ولهم، إما نحن وإما هم. والسلام الحقيقي معهم لا يمكن أن يتحقق إلا برحيلهم وعودتهم من حيث أتوا. فهل هذا يمكن أن يتحقق عبر أي عملية تفاوض مزعومة؟ الإجابة الطبيعية تقول لا. وبالتالي فلا خيار أمامنا إلا المقاومة حتى نتمكّن من تحرير كامل التراب الفلسطيني المحتل والمغتصب من العدو الصهيوني، وهنا تهاوت كل محاولات الضيوف المؤيدين لعملية السلام والتطبيع والذين ما زالوا يُصرّون على إمكانية تحقيقها، وخرجت من المقابلة وأنا على يقين بأن هذه النخب إحدى أهم كوارثنا. اللهم بلغت اللهم فاشهد.