حرب استنزاف متقطّعة لشهور أو سنوات؟
ناصر قنديل
كما سبق وتوقّعنا في هذه الزاوية تقف واشنطن وتل أبيب في حالة عجز عن خوض حرب حاسمة وتحقيق نصر حاسم رداً على عملية طوفان الأقصى، رغم حشد كل المقدّرات اللازمة لتحقيق هذا الهدف، والجولة الأولى من هذه الحرب كانت لخمسين يوماً، وفي ذروة الاندفاع المعنوي الإعلامي والسياسي والتعبوي عسكرياً وشعبياً، المفعم بالغضب وروح الانتقام على مستوى القادة والشارع، قبل أن يتمّ اختبار تحوّلات قالت بفشل معادلة الردع الأميركي بمنع توسّع المواجهة نحو قوى محور المقاومة، وفشل جيش الاحتلال بتحقيق إنجاز عسكريّ بائن، وانقلاب الرأي العام الغربي على تأييده التاريخيّ لوقوف حكوماته إلى جانب حروب كيان الاحتلال.
بالنسبة لمحور المقاومة كان واضحاً من كلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، أن المحور لم ينظر لعملية طوفان الأقصى كنقطة انطلاق نحو الحرب الشاملة لتحقيق النصر النهائي على كيان الاحتلال، بل بصفتها إنجازاً عظيماً في السباق التراكميّ لما وصفه السيد نصر الله عملية الربح بالنقاط. وقد وضع لها سقفاً واضحاً هو بمثابة خط أحمر، وهو الحفاظ على نصر السابع من تشرين ومنع الاحتلال من فرض واقع جديد في غزة سكانياً وجغرافياً. وهذا معنى وقف العدوان، وخروج المقاومة من هذه الحرب، خصوصاً حركة حماس منتصرة. وهذا يتطابق مع السقف الذي رسمته حركة حماس خلال معركتها في الجولة الأولى، وفي إدارتها للهدنة والتبادل، بصورة بدت واضحة أنها لم تخطط للعودة إلى جولة ثانية، لكنها طبعاً لا تخشاها، ومعها محور المقاومة جاهز للعودة إلى جبهاته كما قالت وقائع جبهة لبنان فوراً، ما يجعل المعادلة القائمة بوضوح على حدود ما سيفعله الثنائي الأميركي الصهيوني، وكم من الجولات يحتاج حتى يصل إلى القناعة بأن جولة جديدة سوف تكون نتائجها وخيمة، وعائداتها لا تُذكَر، ويصبح قادراً على ترجمة ذلك، بقبول تسلسل عمليات التبادل وفق معادلة الكل مقابل الكل ومن بعدها وقف النار.
الجولة الجديدة من الحرب سوف تجري في ظل معطيات أشدّ قسوة على واشنطن وتل أبيب. وهنا يبدو مناسباً تذكّر الكلام الشهير لمنظّر الحرب الاستراتيجي كارل فون كلاوزفيتز عن الشبه والاختلاف بين الحرب ولعبة الشطرنج، حيث يقول إن المقارنة بين الحرب ولعبة الشطرنج تصيب في كثير من الوجوه، لكن الفارق الكبير بينهما، هو أنه في لعبة الشطرنج تخاض الجولة الثانية بعد أن يُعاد رصف الأحجار كما كانت في بداية الجولة الأولى، بينما في الحرب فإن الجولة الثانية تُخاض وتبدأ من حيث انتهت الجولة ومن حيث كانت الأحجار في ختامها. وهذا يعني أن واشنطن وتل أبيب تبدآن الجولة الثانية بروح مهزومة بعد فشل الجولة الأولى، وردع متآكل، ودعم شعبي متبدّد، وشوارع معارضة؛ بينما المقاومة في اليوم الأول من الجولة الثانية أفضل بكثير من حال اليوم الأخير في الجولة الأولى بعد الهدنة، علماً أن اليوم الأخير من الجولة الأولى كان يوم إنجازاتها العسكرية.
الجولة الثانية سوف تنتهي بالنسبة لواشنطن وتل أبيب أسوأ مما انتهت الجولة الأولى، لكن الاستعصاء الذي تسبّب بالعودة الى الجولة الثانية، قد يأخذنا الى جولة ثالثة وربما أكثر. وهذا ليس عائداً الى ما تريده المقاومة التي رسمت سقوفها، بتبادل الأسرى وفق معادلة الكل مقابل الكل، والدفاع عن غزة وشعبها وتكبيد جيش الاحتلال ثمن العدوان، لكن ما لم يجهز الاحتلال ومن خلفه واشنطن إلى التسليم بوقف العدوان دون أثمان وبتبادل شامل للأسرى، فنحن أمام حرب استنزاف متقطعة بجولات متعدّدة، تستمر شهوراً وربما سنوات، قد تقع فيها لحظة خروج عن السيطرة ويتمّ التدحرج نحو حرب واسعة، تجعلها جولة حاسمة، أو تفتح الطريق نحو الحرب الشاملة.