شرق أوسط جديد… نتائج أولية لطوفان الأقصى
} بتول قصير
قد لا نبالغ إذا اعتبرنا أنّ معركة «طوفان الأقصى» شكلت منعطفاً مهماً على الصعيدين الدولي والإقليمي عموماً، وعلى صعيد القضية الفلسطينية والصراع مع العدو الصهيوني بشكل محدّد، الأمر الذي ينبئ بتطورات هامة وتغيّرات ستعيد تشكيل الشرق الأوسط من جديد.
ففي الوقت الذي بدا فيه وكأنّ المساعي للمسار الذي رسمته واشنطن ستؤتي ثمارها، انطلاقاً من التفاهم الضمني مع طهران بشأن برنامجها النووي، وبين العمل على عقد اتفاقية دفاع مع المملكة العربية السعودية، الأمر الذي سيفتح الطريق لتطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال الاسرائيلي. بالإضافة إلى إعلان الولايات المتحدة في وقت سابق، عن خطط لإنشاء ممر تجاري طموح يربط الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط لتعويض نفوذ الصين المتزايد في المنطقة.
أتت عملية الطوفان على نطاق لم يشهد له مثيل منذ عقود في الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، متزامنة مع حلول الذكرى الخمسين لحرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973. لتجرف مساعي التطبيع التي تسعى واشنطن لإبرامها بين الرياض وتل أبيب. وعليه أصبحت محنة الفلسطينيين في المقدمة والوسط، وأضحى التوصل إلى اتفاق إسرائيلي سعودي غير ممكن. وهذا يؤكد على أنّ معركة «طوفان الأقصى»، وجهت ضربة قاسية ضد مسار التطبيع مع الكيان الصهيوني، وبالتالي فإنّ المعركة أعادت خلط أوراق المسارات التطبيعية وكلّ الاتفاقات الدولية. أضف إلى ما سبق، فإنّ العملية من المنظور الاستراتيجي قد أنهت ما يسمّى بـ»السلام الإبراهيمي»، و»مبادرة السلام العربية» التي أطلقت في القمة العربية في بيروت والتي تعرف بـ «مبادرة الأمير عبدالله»، وكلّ أشكال مبادرات السلام، باعتبار المقاومة باتت خياراً استراتيجياً وحيداً لشعوب المنطقة، خاصة أنّ مسارات السلام لم تردع عدوان هذا الكيان الصهيوني على شعوب الأمة العربية، وفي مقدّمتها الشعب الفلسطيني.
وفي ظلّ كلّ التحديات الراهنة التي وجدت واشنطن نفسها في مواجهة معها، خاصة بعد تقديم دعمها للحرب الإسرائيلية والذي أضرّ بمصداقيتها في المنطقة. وهو ما أثر سلباً على مكانة واشنطن في الجنوب العالمي على نطاق أوسع، خاصة «أنّ ادّعاء إسرائيل بالدفاع عن النفس تحوّل إلى حرب إبادة جماعية للمدنيين الفلسطينيين». وعليه سيتعيّن على الولايات المتحدة صياغة استراتيجية جديدة للشرق الأوسط،
انطلاقاً من تعزيز شراكتها مع المملكة العربية السعودية، التي لديها علاقات عمل مع إيران و»إسرائيل» والعالم العربي بأسره. وتستخدم واشنطن انفتاح الرياض على مختلف اطراف الصراع، لتحقيق مآلاتها، خاصة إذا استخدمت المملكة نفوذها الواسع للمساعدة في إحياء المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية ومساعدة الولايات المتحدة على إبرام اتفاق نووي مع إيران. وبالتالي تصبح الرياض وواشنطن شريكتين بإنشاء الممر الإقتصادي الشرق أوسطي الذي تحتاجه الأخيرة لتحقيق التوازن ضدّ الصين.
وبالعودة إلى تقديرات واشنطن التي فشلت مرة أخرى في رؤيتها لعملية خلط الأوراق التي شهدتها الساحة الدولية في السنوات الأخيرة، وتحددياً بعد الإنكفاء الأميركي في الشرق الأوسط، فيبدو أنّ واشنطن قد بالغت في استقرار الوضع الاقليمي من جهة، وتحديداً بعد ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان الصهيوني، الأمر الذي عملت أميركا جاهدةً على إنجاحه، ومن جهة ثانية تقليلها من شأن القوى المصطفة ضدّها، ما أوقعها في وهم السيطرة الأحادية التي أفل نجمها.
كما افترضت الولايات المتحدة خطأ أّن دولاً أخرى في الشرق الأوسط لن تحتج لأنها عززت سعي الرياض للهيمنة الإقليمية. واعتقدت واشنطن أنّ طهران، مثلاً، كانت حريصة جداً على تطبيع العلاقات مع الدول العربية ومشغولة جداً بالإضطرابات الداخلية بحيث لا يمكنها التدخل في الخطط الأميركية. وفي الواقع، كانت إيران مشغولة بالفعل في تعزيز حلفائها في محور المقاومة.
في موازة ذلك، أظهر 7 تشرين الأول/ أكتوبر، أن معتقدات واشنطن حول الشرق الأوسط غير صحيحة على الإطلاق. كما أظهر فشلها في تقدير مسألة تجاهل القضية الفلسطينية، فاتفاقها المبدئي مع السعوديين افترض في أنّ الرياض يمكنها تطبيع العلاقات مع «إسرائيل» وعدم إثارة ردّ فعل عنيف واسع النطاق، لكنها لم تتوقع أن تتلقى تلك الصفعة التي وجههتها المقاومة الفلسطينية لأميركا وربيبتها «إسرائيل» على السواء.
وعطفاً على ما سبق، أصبحت مهمة واشنطن الأكثر إلحاحاً هي تمديد فترة الهدنة في غزة بل وإنهاؤها تماماً. وبمجرد انتهاء القتال، يمكن لواشنطن أن تبدأ في التطلع إلى الأمام. وبينما تفعل ذلك، سوف تحتاج إلى اتخاذ وجهة نظر واقعية. تتجلى بالإتفاقيات التي توسع الضمانات الأمنية الأميركية.
و بغض النظر عما تفعله واشنطن، ستكون هناك مقاومة لرؤيتها في الشرق الأوسط، وستبقى إيران معادية لـ «إسرائيل» وللولايات المتحدة.كما وأنه ولن يكون جيران المملكة العربية السعودية في الخليج سعداء أبدا بهيمنة المملكة. وستحسب «إسرائيل» وتركيا أيضاً ارتدادات الاتفاق والشراكة السعودية ـ الأميركية.
في المحصلة، سترسخ عملية «طوفان الأقصى» مسألة مهمة جداً، تفضي الى انّ كلّ الوسائل التي يعمل عليها رعاة هذا الكيان هي جهود لا طائل منها لإنعاش هذا الكيان الصهيوني الذي دخل حالة الموت السريري، والأهمّ أنّ هذه العملية التاريخية تمكنت حرفياً من تعطيل جدول السياسات الأميركية في المنطقة، وعليه فإنّ عملية الطوفان خسفت ليست سمعة «إسرائيل» المهزوزة أصلاً، بل سمعة أميركا أيضاً، وسلبت سمعة الدول الأوروبية الشهيرة، وأيضاً سمعة الحضارة والثقافة الغربيتين…