معادلة المقاومة في لبنان: قانون نيوتن الثالث للحركة
} حسن كحيل
الحروب تخاض بهدف سياسي والانتصارات تقاس بتحقيق هذه الأهداف السياسية لا بحجم الخسائر. فمن الممكن أن يكون المنتصر هو من تلقّى عدد الخسائر الأكبر وأحياناً بأضعاف كبيرة مقارنة بالطرف الخاسر. فحصار لينينغراد، الذي دام حوالي السنتين ونصف السنة، خطف أرواح أكثر من مليون سوفياتي (ويصل العدد الى مليونين في بعض التقديرات السوفياتية) بالإضافة إلى تدمير واحدة من أهم مدن السوفيات، فيما وصلت الخسائر في المعسكر النازي إلى ستمائة ألف قتيل، إلا أنّ الجميع يعلم انّ السوفيات هم الذين انتصروا في تلك المعركة عبر منع النازيين من احتلال المدينة.
ونرى أنّ ثورة التحرير الجزائرية، التي امتدّت بين عامي 1954 و1962، أدّت إلى مقتل حوالي 25 ألفاً من الفرنسيين فيما قدَّم الجزائريون أكثر من مليون ونصف المليون من الشهداء، ومع ذلك فقد انتهت الحرب بانتصار الجزائريين وطرد المستعمر الفرنسي رغم الفارق الشاسع بأعداد الخسائر.
وفي عام 1956، خلال العدوان الثلاثي التي قامت به كلّ من فرنسا وبريطانيا و»إسرائيل» على مصر، قُتِل بضع مئات من جنود قوى العدوان فيما خسرت مصر آلاف الشهداء، كما تعرَّض أسطول دباباتها وطائراتها لتدمير شبه كامل (أكثر من 100 دبابة و200 طائرة)، هنا أيضاً خرجت مصر منتصرةً بتثبيتِ حُكمِ عبد الناصر والإبقاء على قرار تأميم قناة السويس.
هذه أمثلة عربية وعالمية تُظهِر كيف ينتصر المدافع بمجرّد أن يمنع المعتدي من تحقيق أهدافه السياسية.
أما في لبنان، خلال اجتياح «إسرائيل» للبنان عام 1982 وحتى العام 1985، فقد خسرت «إسرائيل» حوالي 700 قتيل فيما قدم اللبنانيون والسوريون والفلسطينيون أكثر من 30,000 شهيد. هذه الحرب، وعلى الرغم من أنّ «إسرائيل» حققت هدفها في إبعاد منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، إلّا أنها ساهمت في نشوء مقاومة لبنانية أقوى وأشدّ إيلاماً للعدو، وهذا ما ألغى مفعولَ طرد منظمة التحرير من لبنان، فخسرت «إسرائيل» هذه المعركة واضطرت للانسحاب إلى ما عُرف بالشريط الحدودي عام 1985 تحت وطأة ضربات هذه المقاومة الوليدة. في تموز من العام 1993، قامت «إسرائيل» بعملية أطلقت عليها اسم «تصفية الحساب»، كانت تهدف للقضاء على المقاومة ومنع إطلاق الصواريخ على المستعمرات. في تلك المعركة خسرت «إسرائيل» 3 قتلى فيما قدّم لبنان أكثر من 150 شهيداً، إلّا أنّ لبنان خرج منتصراً عبر الاعتراف الشفوي بمقاومته.
في نيسان من العام 1996، شنَّت «إسرائيل» عدواناً أطلقت عليه اسم «عناقيد الغضب» كانت تهدف فيه لمنع إطلاق الصواريخ على مستعمرات الجليل. في هذا العدوان قدم لبنان أكثر من 150 شهيداً و300 جريحا فيما جُرح أكثر من 60 إسرائيلياً، وهنا أيضاً خرج لبنان منتصراً لكن عبر الاعتراف بمقاومته، خطِّيّا هذه المرة، فيما عُرف بتفاهم نيسان. حينها، ظلت المقاومة تمطر المستعمرات بصواريخ الكاتيوشا حتى آخر ساعة قبل وقف إطلاق النار. وفي أيار من العام 2000 تكللت نجاحات المقاومة بتحرير الأرض وانسحاب «إسرائيل» فكان الانتصار الكبير باعتراف الجميع.
في 12 تموز من العام 2006، شنت «إسرائيل» حربها على لبنان ووضعت لها هدفاً بسحق المقاومة واستعادة الأسيرين اللذين قامت المقاومة بأسرهما يومها.
خلال الحرب، خفضت إسرائيل من أهدافها إلى تدمير القدرة الصاروخية البعيدة المدى للمقاومة. في هذه الحرب قدّم لبنان أكثر من 1400 شهيداً وأكثر من 4000 جريحاً، فيما مُنيت «إسرائيل» بأكثر من 160 قتيلاً و2500 جريحاً. كان انتصار المقاومة يومها باهراً باعتراف العدو لأنه، ولأول مرة، استطاعت حركة مقاومة إفشال أهداف العدو، بل وحتى منعته من تثبيت تقدّم له ولو لبضعة أمتار داخل حدود الوطن. كما ظلّت المقاومة تمطر المستعمرات في حيفا وما بعد حيفا بصواريخها حتى آخر ساعة قبل وقف إطلاق النار. إلى جانب ذلك، وضَعَ هذا الانتصار نهايةً للشرق الأوسط الجديد الذي كانت تبشِّر به أميركا.
منذ حرب 2006، كرّست المقاومة معادلة ردعٍ تمنع الإسرائيلي من العدوان، وقد أضافت إلى هذه المعادلة في العام 2010 بعض التساوي، فجعلت المطار بالمطار والبناء بالبناء، إلّا أنها لم تَعِدْ بتساوٍ كلي بين العدوان ورد العدوان. خلال السنوات اللاحقة أضافت إلى معادلة الردع أنّ أيّ اعتداء على مقاوميها، ولو كان خارج الحدود، لن يمُرَّ دون ردّ وأنّ القتل بالقتل. ولكنها مرة أخرى لم تتعهّد بالتساوي المطلق.
إنّ الانتصارات في الحروب على الرغم من أنها لا تقاس بحجم الخسائر، إلا أنّ تعديل ميزان الخسائر يجعل موقف المنتصر أقوى وأفضل سواءً في بيئته أو عند الخصوم، كما أنه يظهر الحجم الحقيقي للانتصار بأبعاده السياسية.
وهكذا نرى الجديد في المعركة القائمة الآن على الحدود الجنوبية للبنان. فنرى أنّ ميزان الخسائر قد اعتدل، فالمقاومة، وإنْ كانت في عملياتها تساند جبهة غزة، إلا أنها أيضاً تردّ على اعتداءات العدو. بإمكاننا أن نرى المعادلة جليةً في البيانات التي تصدرها المقاومة، فتذكر أنّ هذه العمليةَ ردّ على هذا الاعتداء وتلك ردّ على ذاك، ونجد أنّ خسائر العدو مكافئة لتلك التي سبّبها سواء على المقاومين أو المدنيين. والعدو، وإنْ لم يعترف بحجم الخسارة، إلا أنّ المقاومة تُثبِت، بما لا يقبل الشك، أنّ الخسارة محققة، فتظهر فيديوات العمليات وكيف أنّ عدداً محدّداً دخل إلى بيتٍ أو موقعٍ وقامت المقاومة بنسفه. والجديد كذلك أنّ المقاومة أصبحت تردّ بالتماثل على استهداف العدو لمنشآت تجارية أو اقتصادية، فنجد انّ المقاومة ردّت على قصف العدو لمصنع للألمنيوم قرب النبطية في جنوب لبنان بضرب مصنع للصناعات العسكرية في منطقه شلومي. لا بل يمكننا أن نقول إنّ ردّ المقاومة أرفع وأقوى، إذ إنها تردّ بضرب هدف عسكري سواء استهدف العدو المدني عندها أو العسكري، ولكنها لم تتعهّد ولن تتعهّد بعدم ضرب المستعمرين المدنيّين في حال الاعتداء على الآمنين في لبنان.
من هنا، رياضيّاً، يمكن اختصار المعادلة الردعية للمقاومة بقانون نيوتن الثالث للحركة: لكلّ فعل ردّ فعل، مساوٍ في القوة معاكس في الاتجاه!
لذلك نستطيع القول، بثقة عالية، إنّ المقاومة، في أيّ حرب مقبلة، ستحقق انتصاراً واضحاً جلِيّاً لا لُبس فيه. فكما ولّى زمن الهزائم فقد ولّى زمن الانتصارات المُشَكَّكِ بها عند البعض، وأتى زمن الانتصارات الصافية…