غزة تقاوم واشنطن وتل أبيب معاً
} بشارة مرهج*
في حربها الحاقدة على غزة، دمرت القوات الإسرائيلية بالذخيرة والأسلحة الأميركية، المستشفيات، والمدارس الفلسطينية، كما دمرت الجوامع والكنائس والمباني التراثية إضافة إلى المنازل والأسواق وارتكبت مجازر فظيعة بحق الشعب الفلسطيني لا بد أن يتوقف عندها التاريخ.
وكما ثبت من خلال التصريحات والصور والوقائع فإنّ «إسرائيل» لم تتورّط في كلّ ذلك من باب الخطأ الذي يستحيل تكراره بهذه الوتيرة، وإنما من باب الفعل المتعمّد الذي يستهدف إزالة غزة من الوجود وتحويلها إلى درس ناطق يردع الغزيين أو سواهم من التفكير بمقاومتها أو حتى الاعتراض على ممارساتها العنصرية.
وإذ تواصل تل أبيب حرب الإبادة ضدّ غزة بالتعاون مع واشنطن ولندن، مركزة على الأطفال والنساء، فإنها تتوقع إشاعة الرعب في نفوس الأهالي وحملهم على الاستسلام أو الرحيل كي تسجل القيادة الإسرائيلية المضطربة «انتصاراً» تغطي به إخفاقاتها التي ضجّ بها العالم سواء على صعيد العمل الاستخباراتي أو العسكري أو السياسي.
لكن الفلسطينيين، بتضحياتهم الجسيمة وصمودهم الأسطوري على أرضهم وتماسكهم حول مقاومتهم، يفاجئون الاحتلال كلّ يوم ويتصدّون بجرأة منقطعة النظير لمخططاته وهجماته تاركين قادته في حيرة من أمرهم، خاصة أنّ كلّ يوم جديد في الميدان يضغط على المجتمع الصهيوني المأزوم، ويثقل اقتصاده المتكئ أصلاً على اقتصاد أميركي غارق في الديون يتردّد في إيفاء وعوده لأوكرانيا، وما يعنيه ذلك من تأثير على ميزان الصراع الستراتيجي بين موسكو وواشنطن.
إنّ مجلس الأمن الدولي الذي سجل بالأمس، رغم الفيتو الأميركي، انتصاراً كبيراً لفلسطين على المنطق الصهيوني المتمسك بالعقوبات الجماعية والتطهير العرقي، بات عليه اتخاذ قرار بإرسال بعثة طبية دولية لإخضاع قادة الكيان الغاصب لفحوصات طبية عاجلة ودقيقة للتأكد من سلامة القابضين على قرار الحرب الذين تخطوا كلّ الاعتبارات القانونية ومزقوا كلّ المعاهدات الدولية ويهددون الآن بشيوع الفوضى وزعزعة الأمن والسلم في الأقليم والعالم.
إنّ استشهاد هذا العدد الهائل من الأطفال والنساء في غزة جعل البشرية تنتفض في شوارع العواصم المساندة للغزوة الصهيونية، كما العواصم الأخرى، معلنة سخطها على الجلاد الصهيوني وتعاطفها الكبير مع الانسان الفلسطيني الذي يعاني الظلم والاضطهاد منذ عشرات السنين.
إن البشرية تتساءل اليوم بخوف وقلق عن جدوى القوانين والمؤسسات الدولية العاجزة بسبب الفيتو الأميركي عن ردع المعتدي وحماية الضحايا الفلسطينيين الذين يسقطون بالمئات يومياً نسبة لتغول قادة الحرب الإسرائيليين وساديتهم.
إن الانتفاضة الدولية ضد الاستبداد الإسرائيلي وتأييداً للحق الفلسطيني لم تأت من فراغ أو من خلفية ذاتية وإنما انبثقت من عمق المأساة الإنسانية التي تشهدها غزة ومن رحم المعاناة التي يعيشها المواطن الفلسطيني الذي يُعتبر من أكثر الناس علماً وثقافة وحضوراً في المنطقة.
إن الناس في أقصى المناحي والمناطق يشعرون بالذعر من إمكانية «تسويغ» الممارسات الإسرائيلية على المسرح الدولي كما من تمادي «إسرائيل» في سفك الدماء، وتعطيش الناس وتجويع الحوامل، واحتقار قيم الحياة، وإثارة الفوضى في المجتمعات والأقاليم، إن لم يكن في العالم كله.
إن الولايات المتحدة التي تفرّدت بالأمس بمعارضة قرار مجلس الأمن الرامي إلى وقف إطلاق النار في غزة وإيصال المساعدات الحياتية والطبية إلى القطاع المظلوم تتحمل مسؤولية سياسية واخلاقية مباشرة مع «إسرائيل» في نشر ثقافة الجريمة والافلات من العقاب في العالم بأسره، خاصة أنها تدرك أن القهر «الإسرائيلي» لقطاع غزة قديم وسابق لولادة حماس بعشرات السنين، تماماً كما هو سابق لولادة المقاومة الإسلامية في لبنان بعشرات السنين أيضاً، مما يؤكد أن المشكلة الأساس تكمن في الاحتلال الصهيوني وممارساته الدموية ضد الفلسطينيين وشعوب المنطقة وليس في الحركات والمنظمات التي تنشأ لردّ كيد العدو ورصاصه.
فخطة التوطين والاستيلاء على الأرض وطرد الفلسطينيين والمصريين والسوريين واللبنانيين من بيوتهم خطة قديمة قبل أن ترى المقاومة الإسلامية أو حماس النور. وهي خطة ثابتة يجري تنفيذها وفق برامج معدة سلفاً وبصرف النظر عن ماهية الطرف الأخر سواء كان عبد الناصر أو ياسر عرفات أو أحمد ياسين أو حافظ الأسد أو صدام حسين أو حسن نصرالله أو كتائب القسام. فالصراع قديم ومحكوم بالتجدّد والانفجار كلما تقدّمت الخطة الصهيونية خطوة إلى الأمام، تماماً كما جرى في الحقبة المباشرة التي سبقت حرب غزة حيث ظهر التطرف الإسرائيلي بأسوأ مظاهره عدواناً مستمراً على الأقصى المبارك واستيطاناً متسارعاً وكثيفاً على أراضي الضفة الغربية والقدس، علاوة على بناء الطرق والحواجز التي تعزل الفلسطينيين في أحيائهم الممنوعة من التنفس والعمل والتبادل التجاري والحركة.
إنّ «إسرائيل» من خلال خطواتها التهويدية وحرمانها الفلسطينيين من كلّ حقوقهم واتخاذ أقسى التدابير بحقهم كانت ولا تزال ترمي إلى تحقيق هدف أبعد من ممارساتها اليومية المتمثلة بزجّ الفلسطينيين في السجون، واقتحام البيوت، وطرد العائلات من منازلها، وسحب الأوراق الثبوتية من حامليها، وتغيير المناهج التعليمية، ومنع السفر، وتفريق الأسر، وقتل الإعلاميين، وإقفال المتاجر، وتشجيع المخدرات، وإتلاف المزروعات وإقتلاع شجر الزيتون، وتحويل المياه المبتذلة الى القرى والبلدات، ومصادرة أموال الجمارك والرسوم، والتوقيف الكيفي والتهجير، إلى ما هنالك من ممارسات عنصرية إجرامية سادية تبرهن بما لا يدع مجالاً للشك أنّ المسألة المطروحة ليست أمنية خالصة فحسب، وإنما هي في جوهرها تتعلق بالاستيلاء على الأراضي الفلسطينية والمضيّ بمشروع الدولة اليهودية الخالصة الذي لا يعرف أحد حدودها أو دستورها.
فالحرب في غزة لم تنفجر في 7 أكتوبر، لكن 7 أكتوبر هو انفجار كبير داخل حرب فلسطين المستمرة منذ عشرينيات القرن المنصرم لحظة اشتداد ساعد الوكالة اليهودية الاستعمارية برعاية الانتداب البريطاني. بعد ذلك تصاعدت الحرب على غزة إبان العدوان الثلاثي (الإسرائيلي، البريطاني، الفرنسي) على مصر عام 1956، ثم تجددت في أثناء الحرب الخاطفة عام 1967، حيث بقيت غزة تحت الاحتلال الصهيوني تقاوم بضراوة حتى عام 2005 لما نجحت في طرد هذا الاحتلال الذي سرعان ما تحوّل الى محاصرة القطاع براً وبحراً وجواً وصولاً إلى منع صيادي السمك والتجار والمزارعين والحرفيين والسائقين من مزاولة أعمالهم بحرية. وفي ظل هذا الحصار الصهيوني الذي يشبه الحصار الأميركي الذي تعرّض له العراق قبل الحرب الوحشية عليه عام 2003 تضوّرت غزة من الجوع كما اختبرت مرارة العطش وشظف العيش في ظلّ تقنين مشدّد للوقود والكهرباء والقمح والدواء والاسمنت مع تقييد صارم لحركة السلع والأموال والأشخاص.
إزاء ذلك الواقع المزري وجد الغزيون أنفسهم أمام خيارين: أما الموت البطيء، أو الانتفاض على رعاة الحصار الذين يخططون لنهب موارد غزة الستراتيجية وإرغام أهلها على الخروج من القطاع مستفيدين من سوء علاقة حماس بالنظام القائم في مصر والتي لم تكن تسمح لغزة بالتنفس ملء رئتيها أو التحرك وفقاً لحاجتها. لكن غزة بأهلها وقادتها اختارت طريق المقاومة بعدما اختبرت أنّ كلّ الطرق الأخرى لن تؤدي إلى أيّ نتيجة سوى المراوغة والتسويف وما يرافقهما من تردّ للأحوال والمعنويات.
إلى ذلك كانت غزة تدرك بالتجربة ماهية الحركة الصهيونية وعنف أساليبها وإجرام قياداتها التي ترفض الندية أو المساواة وتجنح إلى الاستبداد واستعباد الآخر. لكن ذلك لم يفتّ في عضد غزة ولم يجعلها تتراجع عن هدفها المشروع في إسقاط الحصار المحكم المضروب عليها منذ سبعة عشر عاماً دون أن تتمكن الهيئات الدولية أو الأنظمة العربية من فتح ثغرة فيه.
ملخص القول أن الحكاية لم تبدأ في 7 أكتوبر 2023 وإنما قبل ذلك بنحو قرن لم تتوقف فيه أعمال القمع والقتل والتهجير على غزة والشعب الفلسطيني بأسره. مجلس الأمن، الجمعية العامة للأمم المتحدة، اللجنة الرباعية، كلها فشلت في إلزام تل أبيب تنفيذ قرارات الأمم المتحدة حتى تلك التي وقعّت عليها مع واشنطن. مئة سنة من المماطلة والتسويف والكذب هي التي أدت إلى هذا الانفجار الذي دوى في العالم كله وبث الصوت الفلسطيني على حقيقته قوياً ناصعاً عادلاً بوجه الصوت الصهيوني الذي بدأ يختبر الخفوت والعزلة والاضطراب. هذا الصوت يكاد يختنق بلعابه السام لولا سيل أميركي لا يتوقف من الذخائر والأسلحة ودعم غير محدود على صعيد الإعلام والسياسة والاقتصاد.
عظمة غزة اليوم أنها تقاوم باسم فلسطين وأحرار العالم «إسرائيل» والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا معاً، تقاوم برباطة جأش عز نظيرها فيما عين الدول والأمم تغضّ الطرف عن مستعمرات جديدة شرعت تل أبيب في زرعها اليوم على أرض الضفة الغربية والقدس بغرض تطويق القدس تطويقاً نهائياً والانقضاض على الأقصى المبارك وكل الأماكن الدينية، تماماً كما فعلت في غزة عندما دكت مئة مسجد وفي مقدمهم المسجد العُمري الكبير علاوة على ثلاث كنائس هي من عيون الكنائس القديمة في فلسطين.
*نائب ووزير سابق