«المسافة صفر»… وتحية لأبطال الأمة المقاومين
} د. جمال زهران*
«المسافة صفر»… مصطلح جديد.. دخل قاموس الصراع العربي/ الصهيوني، في عملية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وهو يمثل الحدّ الأقصى – وربما خفي ما هو أعظم – لسبل المقاومة العربية في فلسطين في مواجهة العدو الصهيوني الغادر والبربري، الذي ينتمي إلى العصور البدائية وما قبل التاريخ، حيث كانت تسود الهيمنة بلا قواعد أو نظم. فقد سبق للمقاومة الفلسطينية أن قدّمت سبلاً عديدة في المقاومة ومنها: أطفال الحجارة، والنبلة، والطعن، والعمليات الاستشهادية المباشرة، والضرب عن قرب وغيرها، إلى أن جاءت لحظة الإيناع الفكري وازدهاره، بتقديم سبيل جديد للمقاومة وضدّ جنود الجيش الصهيوني ومستوطنيه (مغتصبي الأرض الفلسطينية)، وهو «المسافة صفر» فقد توارت كلّ السبل، ولم يعُد أمام الفلسطينيّ المقاوم، من سبيل إلا الضرب في المليان وفي المواجهة والوجه، وقسم ظهر العدو، وذلك عن طريق المواجهة بالمفاجأة. فالعدو الصهيوني المختال بقوته.. والتي يظهرها في مركباته ودباباته وفوقها طيرانه، بأحدث الأنواع: دبابات الميركافا، وطائرات الأباتشي الأميركيّة وغيرها، وسط دعاية إعلاميّة ضخمة، بأنه يمتلك القوة القاهرة، التي ترعب النظم العربية، إلا أنّها وقفت عاجزة أمام المقاومين الأبطال، الذين يخرجون على جنود العدو فجأة، ويضربون في المليان، وفي المواجهة.. ولا يفصل الأبطال عن جنود الاحتلال أية مسافة مطلقاً فيقتلونهم بأريحيّة، ويصيبونهم في مقتل، ويتركونهم بين قتيل وجريح أقرب للموت، ثم يختبئون، ويأتي فريق آخر من الأعداء، والكمين معدّ لهم، لنقل جثثهم ومحاولة إنقاذ جرحاهم، فيقعوا في الشرك، ليفاجؤوا بالمقاومين الأبطال ويضربوهم بقوة وسط ذهولهم، من جسارتهم، ويقعوا أيضاً بين قتلى وجرحى جدد.. وهكذا الحال في معارك المسافة صفر، التي تجاوزت السبعين يوماً، لتسطر المقاومة فصلاً تاريخياً ومشاهد لا تنسى، وهي التي تنقل حية وأحياناً على الهواء من الإعلام العسكري الفلسطيني، فينذهل العالم مما حدث ويحدث ولا يزال مستمراً.
فالعدو الصهيونيّ لا يعرف إلا لغة القوة، ولا سلام بدون قوة، والقوة هي أساس العلاقات الدولية، كما هو مستقر، والسلام يصبح عاجزاً، والحق معه ضائعاً، بدون قوة تحميه وتترجمه إلى واقع حي. لذلك فقد أصبحت المسافة «صفراً»، بعد مشوار من وسائل المقاومة التي كانت حلقات متتالية حتى وصلنا إلى المسافة «صفر».
فالمسافة «صفر» تعبير عن الشجاعة في المواجهة، والإصرار على المجابهة المسلحة، تحقيقاً للنصر، وتخويفاً للعدو الصهيوني الذي يتسم بالجُبن والخسة. فهو العدو الذي يقاتل عن بُعد، لخوفه من المواجهة. فهو الذي يضرب بالطيران، وبالدبابات ويسير بالمركبات، ويقتل الأطفال والنساء والشيوخ (كبار السن) عن بُعد، باستخدامه أبشع أنواع الأسلحة الفتاكة!! لكن أن يدخل في حالة اشتباك مباشر مع المناضلين المقاومين من الفلسطينيين أو المقاومة اللبنانية، فهذا من المستحيلات. لذلك أرادت المقاومة أن تواجهه فوق دباباته ومركباته، وإذ به يفاجأ بصعود المقاوم أعلى الدبابات ليضع عليها المتفجرات وينزل بسرعة خاطفة ليعود إلى مخبئه وقواعده سالماً، بينما يكون الجنود وضباطهم كما نرى كل يوم، قتلى وجرحى بإصابات بالغة التأثير، وفي خبر كان، سواء كان قتيلاً أو مصاباً، لأن الأخير تكون إصابته معجّزة له عن الحركة، وتكون النتيجة الخروج من صفوف القوات المسلحة للعدو!
وترى معي عزيزي القارئ، المتحدث الرسمي لكتائب القسام (أبو عبيدة)، والمتحدث الرسمي لكتائب سرايا القدس (أبو حمزة)، كيف أنّ هذين البطلين المقاومين قد أصبحا ذاتَيْ شهرة واسعة لدى جماهير الشعب العربي والإسلامي، وأًصبح الناس في كل مكان ينتظرون ظهور طلتهما الجماهيرية على الشاشات التليفزيونية، لكي يطمئنوا إلى أهلهم في غزة من جانب، وأن يستمعوا ويشاهدوا على الطبيعة إنجازات المقاومة، وانتصاراتها اليومية، والختام: إما النصر، أو الشهادة.
وفي ضوء ما سبق، فإنّ هذه البطولات التي تسطرها المقاومة الفلسطينيّة كلّ يوم، وفي حالة الاشتباك المباشر مع قوات العدو الصهيوني، وليست من مجرد القرب المسافي أو الجسدي، أو عن قرب من جسد العدو، بل من المسافة صفر.. أيّ التحام مباشر ووجهاً لوجه، دون خشية من الجندي الصهيوني وما لديه من أسلحة متقدّمة يحملها أو يركبها أو يقودها. الأمر الذي يؤكد شجاعة واستبسال الجندي المقاوم الفلسطيني في مواجهة الجندي الصهيوني الذي يتسم بالجُبن والخسة، ويحتمي بالآلة العسكرية التي يقودها أو يحملها. ولذلك تجد الجندي الصهيوني يحارب عن بُعد، وفي جميع الأسلحة (طيران – دفاع جوي – مشاة – بحرية)، على عكس الجندي المقاتل المقاوم الذي يُصرّ على الاشتباك المباشر والمواجهة مع جنود القوات الصهيونية من المسافة «صفر».
وهكذا نعيش لحظة تاريخية في حياة الجندي العربي الفلسطيني، الذي يُصرّ على خوض المعركة – التي على ما يبدو أنها الأخيرة من أجل تحرير فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر، وهزيمة المشروع الصهيوني الاستعماري (الأميركي/ الأوروبي)، هزيمة ساحقة وللأبد إن شاء الله. فتفكيك الكيان الصهيوني أضحى ضرورة حتميّة، بل دخل التفكيك والانهيار في العد التنازليّ، وأصبحنا قاب قوسين من تحقيق ذلك.
وختاماً… كما أنّ المسافة صفر، هي ترجمة للحالة التي نعيشها الآن في عمليّة طوفان الأقصى وما بعدها وللآن بعد أكثر من سبعين يوماً، فإنّ المسافة صفر، أيضاً في تلاشي العمر الافتراضي للكيان الصهيوني الاستعماري نتيجة الانهيار والهزيمة الساحقة في هذه العمليّة (طوفان الأقصى). ولعلّ حالة «الاستنزاف الشامل» هي آليّة التفكيك والانهيار لهذا الكيان اللقيط، بإذن الله، والله الشاهد…
*أستاذ العلاقات الدولية والعلوم السياسية، جامعة قناة السويس، جمهورية مصر العربية.