من يضغط على الزناد أولاً نتنياهو أم بايدن؟
} د. حسن أحمد حسن*
بعيداً عن الخوض في تفاصيل العلاقات الأميركية ـــ الإسرائيلية التي لم ينخفض مستواها الإستراتيجي الرفيع منذ انتقلت رعاية الكيان الإسرائيلي من الحضن البريطاني إلى الحضن الأميركي، وسر ذاك الانتقال ليس بسبب تخلي مملكة صاحبة الجلالة بريطانيا العظمى عن الكيان الذي أنشئ ليكون رأس حربة القوى المتنفذة في منطقة حيوية واستراتيجية، وتشغل مساحة كبرى في سياسات القوى المتحكمة بالقرار الإقليمي والدولي، وإنما لأنّ مركز الثقل الجيوبولتيكي الأكثر فاعلية انتقل بعد الحرب العالمية الثانية إلى واشنطن، وهذا يستدعي تلقائياً دفع مراكز الضغط والقدرة على التأثير لتكليف القوة الأعظم بالإشراف والتبني المباشر والعلني لتمكين الكيان من الاستمرارية في أداء دوره الوظيفي الذي يفوق قدراته الذاتية وعوامل قوته الشاملة، وكلّ ما يخطر على الذهن من محطات تعثر آنية اعترضت سيرورة العلاقات الإسرائيلية ـــ الأميركية ليس أكثر من توزيع للأدوار وإسناد للمهام وفق ما ينسجم ورؤية ما يمكن تسميته بـ «حكومة الظل العالمية» أو «الحكومة الخفية» المتحكمة بمفاصل صنع القرار الدولي، وأي خروج عن تلك السكة يعرّض صاحبه للاغتيال المباشر إما سياسياً كما حدث في فضيحة ووترغيت وغيرها، وإما جسدياً كما حدث مع جون كنيدي، وهذا لا يعني تطابق وجهات النظر، أو عدم وجود خلافات بين الجانبين، بل يعني العجز المشترك الذي يشمل الجميع عن اتخاذ أيّ قرار بشكل مستقلّ إلا بمباركة حكومة الظلّ، وإذا حدث وتمّ اتخاذ القرار فالتنفيذ لا يتجاوز الإطار النظري، ولعلّ الشاهد الأقرب إلى الذهن يتضح بجلاء عبر إعلان الرئيس الأميركي السابق ترامب عن سحب القوات الأميركية من سورية فجاءت النتائج الميدانية عكس ما تمّ الإعلان عنه رسمياً، وإذا كان خروج ترامب من البيت الأبيض نتيجة مباشرة لصراعه الذي ظن أنه قادر على حسمه لصالحه ضد حكومة الظل فتجليات ذاك الصراع برهنت على العكس، مع أن علاقة ترامب ونتنياهو كانت وما تزال أكثر من متميزة، ووصول جو بايدن المنغمس بصهيونيته إلى أذنيه لم تخوّله الضغط على تل أبيب ومشاغبة صبيّها الفاجر نتنياهو إلى درجة تمّ الإعلان فيها رسمياً عن قرار البيت الأبيض بعدم دعوة نتنياهو إلى واشنطن وعدم استقباله، وبقدرة قادر يتغيّر كلّ شيء وينقلب إلى العكس بعد ساعات قليلة من تسونامي ملحمة طوفان الأقصى، فكيف يمكن تفسير ذلك خارج السياق المشار إليه سابقاً؟
الإخفاق الإسرائيلي المركب في التعامل مع تداعيات ملحمة الطوفان فرض على واشنطن تحدياً كبيراً وجديداً وخارج إطار جميع الحسابات، ولعلّ المفاجئة الأكبر لم تكن بالأداء المبهر للمقاومة الفلسطينية بل بالسقوط المريع لعوامل القوة وروافعها في الكيان الإسرائيلي، ولم تفلح واشنطن حتى بحضورها المباشر واستقدام أساطيلها وحاملات طائراتها و«فزعة» الناتو وكلّ الأطراف الرئيسية والاحتياطية لدى الحلف الذي تقوده واشنطن في تغيير اللوحة المرتسمة على الأرض، بغضّ النظر عن حجم الإرهاب والإجرام والقتل والتدمير والوحشية التي أطلق لها العنان للحد من سرعة جرف كلّ ما يقف في وجه الطوفان الفلسطيني المقاوم، وهذا ما وضع بايدن ونتنياهو معاً في دائرة المسؤولية والمساءلة، وقد يتذرّع بايدن بأنّ عناد نتنياهو وحكومته هو الذي حدّ من القدرة على لملمة الخيبات ووقفها، أو إبطاء سرعة تأثيرها المتنقل، وبخاصة ما يتعلق بالتبدّل الجوهري في الرأي العام العالمي حتى داخل واشنطن ولندن، وقد يتذرّع نتنياهو بأنّ الضغط الأميركي والتدخل المباشر في دورة اتخاذ القرار وتنفيذه هو الذي أوصل الأمور إلى هذا الدرك الأسفل من الإخفاق المركب والذريع، ومثل هذا المستوى غير المسبوق من المواجهة المتصاعدة بين الاثنين يعني حتمية التخلي عن أحدهما، والأمر أشبه بالمبارزة بالمسدسات فقتل أحد المتبارزين حتمي، وقد لا تهتمّ حكومة الظلّ العالمية بموت الاثنين في سبيل الحفاظ على استمرارية التحكم الصارم بربقة القرار الدولي، ولعلّ هذا يفسّر خفوت الأضواء عن دور كان متوقعاً أو محتملاً لروسيا أو الصين، لكن ما ظهر لا يتجاوز الحضور الباهت بالمعنى الاستراتيجي إذا استثنينا الجانب الدبلوماسي المتمثل باستخدام الفيتو في مجلس الأمن، وهذا الدور ليس مستجداً، بل مستند إلى قاعدة تفعيله سابقاً على ضوء صمود سورية في مواجهة الحرب المفروضة التي أريدَ لها أن تجرف دمشق كغيرها من العواصم التي ضربها إعصار ربيعهم المزعوم.
أن تصل الحال بالرئيس الأميركي إلى مطالبة نتنياهو بتغيير حكومته المتزمّتة، ويصل الأمر بالتصويت في مجلس الشيوخ على النظر بأهلية بايدن للاستمرار في شغل البيت الأبيض فهذا يعني أنه تمّ تذخير المسدسين الموجودين في يد بايدن ونتنياهو، وكلّ منهما أخذ مكانه في حلبة المبارزة بالمسدس، وليس من الحكمة الآن الإقدام على أية خطوة تمكن أحدهما من السبق، والضغط على الزناد قبل الآخر، بل تشجيع الطرفين، وهذا ممكن ونسبة حدوثه في ارتفاع، بغضّ النظر عن أن الإتيان بغيرهما لن يغيّر سريعاً من معالم اللوحة التي رُسمت بدماء أطفال غزة وجراحات نسائها، وعلى وقع دك بنيتها التحتية وتعريض الفلسطينيين إلى أكبر مجزرة في التاريخ الحديث، وحسب المقاومة ونهجها بكلّ أطرافه فخراً أن الفكر الاستراتيجي المقاوم كان المبدع في التعامل مع الأحداث والصانع لها والموجه لتداعياتها إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه، ولعلّ الآتي أفضل وأكثر عمقاً وتأثيراً، وما المؤشرات والمبشرات التي تتبلور في باب المندب ومنطقة التواصل بين البحر الأحمر وبحر العرب إلا الدليل على صحة هذا القول، ويمكن للمأزومين المهزومين الخائفين الخاضعين التابعين الدائرين في الفلك الأميركي أن يستمروا بدفن رؤوسهم كالنعامة في الرمال، فهذا لا يغيّر من أهمية ما يتجسّد على أرض الواقع، وركل مؤخرات أولئك لدفنهم في رمال أعاصير التغيير الحتمي المقبل لن تزعج مشغليهم، كما لا تزعج من كان يتمنّى لأولئك مصيراً أفضل، وكان بإمكانهم تحسين مكانة بلدانهم وشعوبهم بيقين، لكنهم أصرّوا على التقيّد الحرفي بحواف الدور المرسوم لهم فمبارك عليهم النتيجة النهائية أياً كانت.
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية