الأوهام «الإسرائيلية» واليوم التالي للحرب على غزة
} حمزة البشتاوي
يطرح الكيان عدة تصورات ومشاريع لما يسمّيه اليوم التالي للحرب على غزة، وقد حذرت اللجنة المركزية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ القيادة العامة في بيان سياسي صادر عنها بتاريخ 9/12/2023 من كثرة الأحاديث والمواقف عن اليوم التالي للحرب والتباكي على دمار بيوت غزة واستشهاد وجرح عشرات الآلاف من أبناء شعبنا وعن الثمن الباهظ لمعركة طوفان الأقصى، باعتبار هذا التباكي يندرج في إطار التوظيف والاستثمار السياسي المشبوه لتضحيات شعبنا وآلامه ويجري في سياق التشكيك بجدوى المقاومة والطعن في المسار النضالي لحركة التحرر الوطني الفلسطيني في مواجهة برامج التطبيع الإحباط والتيئيس والحصار.
وأكدت في بيانها على ضرورة تشكيل قيادة موحدة من فصائل المقاومة الفلسطينية تواكب المعركة الميدانية وترتقي إلى مستوى تضحيات وبطولات المقاومة على أرضية موقف سياسي يحمي انتصار معركة طوفان الأقصى من مخططات الواهمين بإمكانية التسلل إلى قطاع غزة بمشاريع أمنية وسياسية تلبّي الأهداف الصهيونية المعلنة عن تغيير أمني وسياسي وثقافي في غزة.
وفي سياق الرصد والمتابعة لمواقف قادة الإحتلال ومراكز الأبحاث والدراسات في الكيان الصهيوني، قدمت مجموعة تطلق على نفسها مجموعة التفكير الإستراتيجي داخل معهد القدس للإستراتيجية والأمن، مجموعة من الأفكار والتوصيات لصناع القرار في الكيان حول اليوم التالي للحرب والتي من شأنها الحفاظ على أمن «إسرائيل» وتؤدي على المدى الطويل إلى ترتيبات سياسية مستقرة وتضمّنت أفكاراً وتوصيات حول ترتيبات اليوم التالي للحرب، ومنها وجوب بقاء قطاع غزة في مجال السيطرة الإسرائيلية، وبالتالي، يستثني الخيارات التي يمكن أن نصفها بأنها خارطة طريق لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، ويتموضع في المقابل حول أفضل الطرق التي يمكن للكيان من خلالها الاستمرار بـ «إدارة السكان المحتلين». واستناداً إلى هذا التوجه المهيمن داخل الكيان، رأت مجموعة التفكير الإستراتيجي الإسرائيلية أن مسؤولية الكيان في إدارة حياة سكان القطاع في اليوم التالي للحرب تتضمّن:
1 ـ وجود فراغ حكومي في إدارة حياة القطاع في أعقاب إضعاف قدرات حماس السلطوية وانسحاب سابق لأوانه للجيش الإسرائيلي.
2. إعادة السلطة الفلسطينية وقوات الأمن التابعة لها والعاملة حالياً فقط في الضفة الغربية إلى قطاع غزة. هذه الخيار الذي دعا إليه أيضا رئيس الإدارة الأميركية جو بايدين الذي اشترط حصول «تغيير جوهري» في السلطة الفلسطينية.
3. نظام وصاية دولي أو عربي مؤقت تحت رعاية قوات الأمم المتحدة.
4. إعادة إنتاج آليات الاحتلال المباشر، ومن خلالها تلبّي (إسرائيل) الاحتياجات المدنية لسكان القطاع عبر مجلس عسكري كما كان عليه الوضع قبل إنشاء الإدارة المدنية عام 1981، وهو ما لا تحبّذه الولايات المتحدة باعتباره «إعادة احتلال».
5. إنشاء نظام تكنوقراط جديد، غير مسيّس، ترأسه شخصيات فلسطينية لها حضور شعبي.
وترى المجموعة أنّ هذه الخيارات لم تعد في صيغة «سؤال مفتوح»، بل إنّ بذور الإجابة عنها بدأ غرسها من قبل كابينيت الحرب، وهي تشكل حالياً أحد أهداف العملية العسكرية البرية في القطاع. فإلى جانب الهدفين العسكريين البارزين للعملية العسكرية (إنهاء قدرات حماس العسكرية، وإعادة الأسرى الإسرائيليين)، هناك هدف آخر يتمثل في تحويل قطاع غزة إلى حيّز على شفا كارثة إنسانية قد يستوجب، بشكل لا غنى عنه، وجود نظام حكم من طراز جديد لمعالجة هذه الكارثة الإنسانية، وتولي شؤون سكان القطاع في حيّز تنعدم فيه، بسبب الضربات العسكرية المدمرة، مقدرات الحياة.
وبالتالي، فإنّ على أيّ سلطة فلسطينية مستقبلية على قطاع غزة أن تتعامل مع الدمار الشامل، إذ إنّ معظم الجزء الشمالي من قطاع غزة لم يعد صالحاً للسكن البشري وسيبقى كذلك لفترة طويلة. ولن يتمكن السكان المدنيون من الحصول على الخدمات الصحية الكافية، وستعمل نظم التعليم والصحة والعمالة بصورة جزئية جداً. من هنا، يتحوّل الدمار شبه الشامل للقطاع إلى «كلمة السر» التي سوف تحدّد من هي الجهة الفلسطينية القادرة فعلاً على إعادة إعمار القطاع وضخ الحياة المدنية فيه من نقطة تكاد تكون قريبة من الصفر. هنا، يتحوّل «الدمار شبه الشامل» إلى أداة استراتيجية بيد الاحتلال الذي لا يجب أن ينسحب من القطاع إلا بتوفر شرطين:
1 ـ وجود سلطة جديدة لا تشكل تهديداً أمنياً أو سياسياً (لإسرائيل). التهديد المقصود لا يشمل فقط الجانب الأمني – العسكري (مثل وجود بنية للمقاومة المسلحة كما كان الوضع عليه قبل 7 أكتوبر)، وإنما أيضاً عدم وجود «تحريض سياسي» ضدّ «إسرائيل»، (مثلاً، وجود مناهج تعليم تحريضية، أو تشريعات لاحتضان أهالي الأسرى والشهداء كما هو معمول به حالياً في الضفة الغربية).
2. تخلي السلطة الجديدة عن السيادة الأمنية لصالح (إسرائيل) بحيث تكون للأخيرة «حرية مطلقة» بالعمل العسكري في كلّ قطاع غزة.
وقد وضُعت العديد من التصورات السياسية المتعلقة بمستقبل قطاع غزة، واقتُرحت أسماء فلسطينية للوقوف على رأسها. قد لا يهمّ هنا الإشارة إلى هؤلاء الأشخاص بقدر ما يهمّ تحليل المنطق الكامن وراء هذا التفكير الإستراتيجي. في هذا السياق، ترى مجموعة التفكير الإستراتيجي التي تقدّم دراساتها باعتبارها مقترحات أمام صناع القرار الإسرائيليين بأنّ التجربة الإسرائيلية مع منظمة التحرير الفلسطينية، والسلطة الفلسطينية تحديداً، هي تجربة سيئة وفاشلة. منذ توقيع اتفاق أوسلو، كانت السلطة الفلسطينية تحريضية وعدائية (لإسرائيل). ومع أنّ جو بايدن لم يشرح ما المقصود بضرورة حصول تغيير جوهري على عمل السلطة الفلسطينية، إلا أنّ الباحثين الإسرائيليين يرون أنّ السلطة التي يجب أن تتعامل معها (إسرائيل) في اليوم التالي للحرب يجب أن تضع على رأس مهماتها إحداث تغيير كامل في المناهج التعليمية (لضمان جيل جديد من الفلسطينيين أكثر «تسامحاً»)، وأن تتوقف فوراً عن دفع المرتبات لـ «الإرهابيين» الفلسطينيين سواء الأسرى أو عائلات الشهداء. كما لا يجب أن تشكل السلطة الجديدة لاعباً سياسياً مستعداً لتحدي (إسرائيل) في الهيئات الدولية أو أن تشرف على حملات لنزع الشرعية عنها في محافل دولية مختلفة.
وقد لا تتوفر هذه الشروط في سلطة يقف على رأسها تنظيم سياسي فلسطيني، بل «سيكون من الصواب محاولة بناء نظام حكم تكنوقراطي مدني فلسطيني كنموذج جديد».. فقط حكومة تكنوقراطية، حسب مجموعة التفكير الإستراتيجي، ستكون قادرة على الاستمرار في إدارة شؤون الفلسطينيين، وهي التي قد تكون على قدر كافٍ من المسؤولية والمهنية لتسلم مقاليد الحكم في قطاع غزة. وينصحون بأن تتوفر في هذه السلطة التكنوقراطية الشروط التالية:
1. ألا تكون مفاهيم حق العودة والإعجاب بالكفاح المسلح جزءاً من ثقافة أو روح السلطة الجديدة. وتحقيقاً لهذه الغاية، يجب تفكيك جميع التشكيلات التي تديم قضية اللاجئين الفلسطينيين، مثل تفكيك المخيمات واستبدالها بأحياء سكنة جديدة وإنهاء خدمات وكالة الأونروا. فلا يوجد مبرر لاستمرار وجود هاتين المؤسستين (المخيم والأونروا) تديمان بشكل ممنهج وعي اللاجئين بأنهم لا يزالون لاجئين ويطالبون بحق العودة.
2. الشرط الثاني هو أن تكون هذه السلطة مقبولة مهنياً وخالية من هيكليات الفساد والمحسوبية. ويشير هذا الشرط إلى أحد جوانب الفشل في اتفاق أوسلو الذي سمح بتدفق مليارات من الدولارات لصالح الفلسطينيين. وبدل من أن تقوم السلطة الفلسطينية القائمة بصرفها لإعادة تشكيل المشهد الاجتماعي – الثقافي الفلسطيني وتحويله إلى مشهد غير مسيّس وغير عدواني تجاه (إسرائيل)، اهتمّت هذه السلطة في توجيه الأموال إلى جيوب لا تستحقها. وبالتالي، فإنّ سلطة تكنوقراطية غير مسيّسة، ولا تشبه هياكل السلطة القائمة حالياً، قد تكون قادرة على نيل ثقة المجتمع الدولي الذي سيمول قطاع غزة في اليوم التالي للحرب.
3. يجب أن يكون الهدف الإستراتيجي للسلطة الجديد هو الانفكاك المدني عن دولة (إسرائيل) مع الخضوع الأمني الشامل لها. وحسب الصيغة المستخدمة من قبل مجموعة التفكير الإستراتيجي، فإنّ الانفكاك المدني لا يعني التحرر من سيطرة (إسرائيل) الأمنية أو تقييد قدرتها على العمل العسكري داخل القطاع في المستقبل. في المقابل يعني الانفكاك المدني التقليل من التبعية الإدارية لسكان القطاع على (إسرائيل) في تقديم الخدمات العامة من كهرباء، وطاقة ومياه وأسواق عمل. هذا يعني أنّ واقع التنسيق والارتباط المتبع حالياً مع قطاع غزة (لكن أيضاً مع الضفة الغربية) لم يعد خياراً ملائماً لاستمرار العلاقة بين الفلسطينيين والإحتلال.
وتبقى هذه الأفكار مجرد أوهام في ظلّ صبر وصمود ومقاومة شعبنا للعدوان الوحشي على غزة، حيث لا تزال الخسائر الجسيمة تلحق بجيش الاحتلال التي يطرح قادته انتهاء الحرب، وطرح التصورات عن مستقبل قطاع غزة ما بعد انتهاء الحرب، من بينها التخلص من حركة حماس، أو على الأقلّ استبعاد الحركة عن الحكم والسيطرة في قطاع غزة، وتحجيم وجودها في القطاع، وهذا أمر لا يمكن تحقيقه، فالحركة لها تواجد سياسي، ومتجذرة في المجتمع، وحماس لديها أوراق، ولديها بنية عسكرية ستحافظ عليها وعلى تقويتها، لذلك فإنّ استبعادها عن أي ترتيبات خاصة بمستقبل القطاع «وهم وسراب».
إنّ ما سبق يشير إلى ما يفكر به الإحتلال وما يعدّ له من مخططات ومؤامرات ضدّ قضيتنا وشعبنا الذي يؤكد بصموده ومقاومته رفضه لكلّ المشاريع الدولية والإسرائيلية التي تطرح بعقلية فرض إرادة المحتلّ على شعبنا. وكأن الإحتلال قد حسم المعركة لصالحه، بينما النتائج الميدانية حتى الآن تثبت فشله الذريع في كسر شوكة المقاومة وتطويع الإرادة الشعبية القادرة حتماً أن على هزيمة العدوان ضد قطاع غزة.