هل تفقد العلاقات الأميركية – الإسرائيلية ألقها؟
} بتول قصير*
وثيقة هي العلاقات الأميركية – الإسرائيلية على مدار الحرب الحالية لم تتبدّل، لكن يبدو أنّ ثمة توترات ستنمو في أعقاب ذلك حيث يضغط البيت الأبيض على «إسرائيل» لتقليل مخاطر الصراعات المستقبلية التي قد تجرّ الولايات المتحدة مرة أخرى إلى الشرق الأوسط.
فمنذ تولي بنيامين نتنياهو رئاسة الحكومة في ديسمبر/ كانون الأول 2022، انتهجت سلطات الاحتلال الإسرائيلي سياسات تخالف رؤية الولايات المتحدة في المنطقة التي تعتمد على استراتيجية خفض التصعيد. وبينما تصرّ الحكومة الإسرائيلية الأكثر تطرفاً في تاريخ «كيان العدو» على الاستمرار بنهجها الدموي والعنصري بحق الشعب الفلسطيني، وانتهاكها للقوانين الدولية، لم تمض معارضة أميركا لهذه السياسات إلى أبعد من التصريحات المدينة والمستنكرة، دون إبداء لأيّ مواقف حادة أو إجراءات ترقى لوصفها بالتصعيد أو تردع الهمجية والوحشية الإسرائيلية. الأمر الذي يضعنا أمام تساؤل عن ما الذي يمنع وصول العلاقات الأميركية – الإسرائيلية إلى مرحلة القطيعة؟
لا يخفى على أحد بأنّ سر الدعم الأميركي غير المشروط لـ «إسرائيل» لا يمكن أن يختزل بالمصالح المشتركة فقط، بل هناك أبعاد أخرى للعلاقة بين الطرفين توثق الروابط بينهما وتجعلها عصية على الفكاك، وذلك يفهم من خلال أربع محدّدات رئيسية، هي البعد الاستراتيجي، والبعد التاريخي والثقافي، والبعد الديني، والترابط الاجتماعي.
فاستراتيجياً، تعدّ «إسرائيل» الذراع الأميركية في الشرق الأوسط بسبب موقعها الجغرافي، إذ تعوّل الولايات المتحدة عليها لحماية مصالحها المتمثلة بتأمين طرق إمداد النفط وبسط هيمنتها على المنطقة، وترى واشنطن في تل أبيب القوة العسكرية الوحيدة القادرة على ضبط القوى العربية المحيطة بها، وعليه توسَّعَ التأييد الأميركي لـ «إسرائيل» ليشمل لأول مرة المواجهات اللامتماثلة، مع تزايد الحركات والخلايا المقاومة، مثل حزب الله و»حماس» والجهاد الإسلامي. وبهذا تأخذ طبيعة الدعم لـ «إسرائيل» منحيين أساسيين: الأول ضبط أو إطلاق العدوانية الإسرائيلية بما يتسق مع المصلحة الأميركية، واحتواء عواقبها غير المقصودة، والثاني الإبقاء على التفوّق العسكري الإسرائيلي الذي شكل ولا يزال يُشكل تهديداً ضمنياً للمنطقة وخطراً وجودياً، كما تستفيد واشنطن من الفوضى التي يخلقها الكيان بإفشاله مشاريع نهضوية قومية في المنطقة العربية.
من جهة أخرى، ثمة ترابط وثيق بين البعدين الثقافي والتاريخي والآخر الديني بين كل من واشنطن وتل أبيب، بحيث يرى شريحة واسعة من النخب الفكرية في دولة الاحتلال انعكاساً لأميركا وثقافتها بالشرق الأوسط. خاصة أنّ البعض في الأوساط الأميركية يعتقدون أنّ مطاردة مهاجري أوروبا للهنود الحمر في العالم الجديد الأميركي، مشابهة لمطاردة العبرانيين القدماء للكنعانيين في فلسطين، ما خلق قناعة ووجداناً مشتركين بين أميركا و»إسرائيل» في العصر الحديث. بالإضافة إلى ما ذكر، فإنّ أحد أهمّ العوامل التي ارتكز عليها الفكر الأميركي في دعمه لـ «إسرائيل»، تتأتى انطلاقاً من كون المستوطنين هم الأوائل في القارة الأميركية من البيوريتانيين (التطهيريين) وهي جماعة دينية تنتمي إلى مذهب مسيحي بروتستانتي تتخذ من التوراة كتاباً مرشداً لها. ويعدّ «التيار المسيحي الأنجليكاني»، الذي ينتشر في الولايات المتحدة، وهو من أقوى التيارات الدينية المسيحية، التي تُقرُّ بأنّ «دعم إسرائيل فرضٌ ديني على كلّ مسيحي»، وأنّ عودة اليهود إلى الأرض المقدسة أمرٌ مُسلَّمٌ دينيّ ضمن نبوءة إنجيلية تقوم على معتقد يؤمن بأنّ المسيح سيعود لنصرة أتباعه وخوض معركة في شمال الأراضي المحتلة عندما تصبح «إسرائيل» دولة يهودية بشكل كامل. وبالتالي فإنّ العوامل الدينية والثقافية والتاريخية، كان لها انعكاس طبيعي على المستوى الإجتماعي. فالمكونات الديموغرافية في الجانبين، ووجود مجموعات ضغط سياسي تحدّد سقف الخيارات السياسية الأميركية من خلال توظيف النظام السياسي الأميركي متعدّد الأقطاب والسلطات، هي في الحقيقة تصبّ لصالح العلاقات مع «إسرائيل» وتعزيزها، وتوفر الدعم الكامل والغير مشروط لها على مستويات عدة.
بالعودة إلى معركة “طوفان الأقصى”، فإنّ ثمة لغطاً قد أثير في الأجواء السياسية عقب تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن، والتي أبدى فيها رأيه بأداء رئيس وزراء كيان العدو بنيامين نتنياهو، حيث ذهبت تلك التصريحات ببعض المتفائلين إلى القول إنّ الولايات المتحدة بصدد تغيير جذريّ في مقارباتها للمسألة الفلسطينيّة، وأنها ليست موافقة على قتل مدنيّين وأصبحت تخشى على مكانتها الأخلاقيّة والأدبيّة .هذه التكهّنات سبقها إعلان شرائح واسعة من الأميركيين بشكل صريح عن أنّ «إسرائيل» دولة فصل عنصري وانصرفت النقاشات التي كانت محشوة بالحجج الدفاعية الواهية والمبتذلة عن «حق إسرائيل في الوجود» و»محاربة الإرهابيين» و»معاداة السامية».
ولكن الخلاف في الرأي لا يفسد للودّ قضية، والتطابق في الرأي أمر شبه مستحيل حتى في داخل أكثر الأحزاب والمنظمات العقائدية والحديدية في الالتزام، والتي يختلف فيها المحازبون بالتفاصيل، وحتى في تفسير النصوص العقائدية ولكنهم لا يختلفون في الأهداف والمسائل الكبرى. وعليه، فإنّ نقطة الخلاف الرئيسية بين بايدن ونتنياهو هي حول اليوم الثاني لما بعد انتهاء الحرب على غزة والقضاء على المقاومة وحركة حماس وتحرير مَن اعتقلتهم المقاومة. فـ بايدن يرى أنه من الضروري تقديم الدعم للسلطة الفلسطينية في رام الله وإعادة تأهيلها وإصلاحها كي تكون قادرة على تسلّم غزة، بينما يرى نتنياهو ضرورة ملحة لتهشيم السلطة الفلسطينية وتعميق الفجوة الفلسطينية -الفلسطينية.
وعطفاً على ما سبق، قد تتدخل إدارة بايدن بشكل أكثر نشاطاً في السياسة الإسرائيلية لمحاولة إقناع حكومة نتنياهو بمعالجة السياسات التي أدّت إلى العنف مع الفلسطينيين استجابة للضغوط السياسية المحلية في الشارع الأميركي. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ الخلاف ليس بين الولايات المتحدة و(إسرائيل) بقدر ما هو بين بايدن ونتنياهو، وهو يتعلّق في جانبه الأساسي برؤية كلّ منهما لطريقة إدارة الحرب وتفاصيلها.
وبناءً عليه، يمكن القول انه وعلى الرغم من أن احتمالية انفصال الحليفين تبدو بعيدة نظراً للمتغيّرات اليوم، فإنها غير مستحيلة وبدأت تظهر بوادرها ولو كانت بشكل خجول او ضمني، خاصة بعدما كثر الحديث في أروقة مراكز القرار الأميركي عن الضرر الذي بدأ يشكله اللوبي الصهيوني على مصالح واشنطن بالمنطقة، كما يدعو إلى أن تتحوّل آلية المساعدات الأميركية لـ «إسرائيل» إلى دعم مشروط بعدما أصبحت تشكل الأخيرة عبئاً استراتيجياً على الولايات المتحدة.
*كاتبة سياسية لبنانية