تحرير الومضة من الأنا
} باسل بديع الزّين
لا شكّ في أنّ الدّعوة إلى تحرير النّصّ الشّعريّ من سُلطة الأنا القاهرة دعوةٌ مُكَرّسَةٌ في بعض المذاهب الأدبيّة، ونُلْفيها بخاصّة لدى كوكبةٍ من النّقاد (إيليّا حاوي نموذجًا) الّذين يُريدون للتّجربة الشّعريّة أن تنعتق من الفرديّة الضّيّقة وتعانق الكليّ والإنسانيّ والمُطلَق. بيد أنّ دعوتنا هنا إلى تحرير الومضة من سطوة الأنا تجد مردّها، من جهةٍ، في الحاجة الملحّة حقًّا إلى انعتاق التّجربة الشّعريّة من الفرديّة الضيّقة، ومن جهة أخرى، في الضّرورة الّتي تفرضها – برأينا – طبيعة الومضة؛ أي في انبناء الومضة نفسها الّذي لا يستقيم إلّا في غياب الأنا.
إذا عُدنا إلى السِّمات الخاصّة بالومضة، من أمثال اتّساع اللّغة الدّاخليّ، وطاقة المفردة، والرؤيا، وغيرها، لوجدنا أنّها سمات تتقوّم بغياب الأنا. لكنّنا سنكتفي في هذه المقالة بالإشارة إلى اتّساع اللّغة الدّاخليّ والرؤيا، ونُبيّن من خلالهما لماذا ينبغي للومضة أن تتحرّر من الأنا؟
تجدر الإشارة بداية إلى أنّ هذه الدّعوة لا تُلزم أعضاء ملتقى الأدب الوجيز، ذلك بأنّها اجتهاد شخصيّ منّي قابلٌ النّقاشَ والحوارَ، بل إنّها لا تلزمني شخصيًّا، إذ إنّ غالبيّة ومضاتي تنطوي على حضور كثيف للأنا.
الواقع أنّ الحديث عن اتّساع اللّغة الدّاخليّ حديثٌ عن لحظةٍ تكثيفيّة تروم أن يكون تعبيرُها تفجيرًا للحظة الشّعريّة وليس ارتدادًا لها، ذلك بأنّ الإطناب بقدر ما يسمح للّغة بأن تنبسط بذاتها إلى خارج ذاتها من دون أن تعي حقيقة ذاتها، بقدر ما يُخفِّف من حدّة اللّحظة الشّعريّة الّتي بإمكانها عند الإطناب أن تلبس أكثرَ من لبوس، وتتّخذ أكثر من صورة. لكن عند التّكثيف ترتدّ اللّغة إلى ذاتها لتكتشف ذاتها، وتنعدم الخيارات أمام الشّاعر في حشد صورٍ متعدّدة للّحظة بعينها. واللّغة بعودتها إلى إمكانها المحض تغدو أخرى، ذلك بأنّها ستعثر في ذاتها على اتّساع لم يكن بإمكانها أن تعثر عليه من تلقائها لولا وجود آخر – هو الشّاعر – يستنطق إمكاناتها، ويفتّق أبعادها. قل كذلك عن اللّحظة الرؤيويّة الشّعريّة الّتي لم يكن بإمكانها أن تتّخذ تلك الصّورة حصرًا من دون سواها لولا الشّاعر أيضًا الّذي يفرض على رؤاه أن تتّخذ القالب اللّغويّ هذا من دون سواه. بوجيز العبارة، إذا كان الشّاعر قادرًا على تفتيق إمكانات اللّغة، وسبر أغوار الرؤيا المكثّفة، والتّعبير عنها بشكل يتناسبُ والإمكانات المفتَّقة، فكيف لهذا الشّاعر الّذي لم يرتضِ من اللّغة إلّا بما خفيَ من إمكاناتها، ومن الرّؤيا إلّا بما كَثَّفَها وبما ألبسها أندر الحللِ، كيف له أن يقنع بالذّاتيّ العارِض، ومن ثمّ ألّا يركن إلى الكونيّ الدّائم؟ أليست التجربة الشّخصيّة إطنابًا في رصد الأحوال النّفسيّة؟ ألا يُمثِّل توسَّل الحياتيّ والخاصّ استدراجًا للّغة في انعطائها المباشر؟ بعبارة أوضح، ما دامت التجربة قد رسفت عند حدود الجزئيّ واليوميّ، فلن يكون بمقدورها أن تلتمس اللّغة التكثيفيّة ذات الاتساع الدّاخليّ، ذلك بأنّ الشّعوريّ الخاصّ مهما بلغت درجة التّعبير عنه تكثيفًا سيبقى محصورًا في إطار رؤيا ضيّقة وحسب.
للمزيد من الإيضاح نقول: كلّما نحا الشّاعر إبّان كتابته القصيدة بعامّة، والومضة بخاصّة إلى ملء قوام النّصّ بمفردات تُعبِّر عن تجربة شخصيّة، أَفرَغَ التّكثيف من ماهيّته، واللّغة من اتّساعها، والرؤيا من عمقها. يُخبرك التّكثيف أنّ أناك قد تجد مكانًا لها في التّبعثر اللّغويّ النّاجم عن انفجار التجربة الشّعريّة كلماتٍ وتعابيرَ، لكنّها لا تجد مكانًا لها عنده. الحقّ أنّ هذا الأمر ليس إقصاءً بل هو توكيد مضاعف. إنكار الأنا هنا إثبات مُضاعف لها، ذلك بأنّ حضورها سيكفّ عن أن يكون حضورًا مباشرًا ليصبح حضورًا منطويًا في كلّ ذات بشريّة.
يحضرني هنا بيتا المتنبّي:
كَفى بِكَ داءً أَن تَرى المَوتَ شافِيا وَحَسبُ المَنايا أَن يَكُنَّ أَمانِيا
تَمَنَّيتَها لَمّا تَمَنَّيتَ أَن تَرى صَديقاً فَأَعيا أَو عَدُوّاً مُداجِيا
من المعروف أنّ هذه القصيدة الّتي ألقاها المتنبّي في مدح كافور أتت بعد ارتحاله عن سيف الدّولة، بعد أن أمضى برفقته وقتًا طويلًا، ونشأت بينهما صداقة عميقة. كان شعور المتنبي بالاغتراب كفيلًا لكي يُعبّر عن تجربته الشّخصيّة وما عاناه من الحسّاد والمستشعرين، وما لقيه من سيف الدّولة على غرار قصيدته «واحرّ قلباه» الّتي شكا فيها قسوة سيف الدّولة، وأقحم أناه إقحامًا مفرطًا للتّعبير عن أحواله واستيائه وفخره: (واحرّ قلباه ممّن قلبه شبم ومن بجسمي وحالي عنده سقمُ … أنا الّذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من بهِ صممُ).
الحقيقة أنّ قصيدة «واحرّ قلباه» كانت برأينا قصيدة خطابيّة، لا سيّما أنّه ألقاها في مجلس سيف الدّولة، في حين أنّ قصيدة «كفى بك داء» قصيدة خطّها بعد رحيله عنه، أي من بعد أن تسنّى لتجربته أن تنضج، والأهمّ من ذلك كلّه، من بعد أن تسنّى له أن يتحرّر من تخبّط الأنا ونضالها من أجل إثبات ذاتها. بعبارة أوضح، ارتحال المتنبي عن سيف الدّولة كان ارتحالًا نهائيًّا أتاح له أن يتجاوز الذاتيّة الضيّقة وأن يروم في قصيدته الإنسانيّة جمعاء.
إذا أنعمنا النّظر في البيتين المذكورين للاحظنا أنّ المتنبي استعاض عن ضمير المتكلّم بضمائر المخاطب (بك – تمنيّتَها – تمنيّتَ)، مع العلم أنّ المخاطب هنا هي ذاته عينها، لكنّ الذّات هنا هي عينها آخر، والآخر هو عينه الذّات. من هنا ارتقت تجربته من خلال مخاطبة ذاته كآخر لتكون تجربة كليّة تخصّ الإنسان في كلّ مكان وزمان. والجدير بالذّكر أنّ هذين البيتين انطويَا على تكثيف كبير، وعلى رؤيا شموليّة، وعلى مفارقة بيّنة تمثّلت في «العدوّ المداجي» الّذي بات يُعجزنا أن نجده.
خلاصة القول إنّ تحرير الومضة من الأنا، سواء من أجل الانعتاق من الفرديّة والوصول إلى الكليّة، أو من أجل تفتيق إمكانات اللّغة وإبانة اتساعها الداخليّ وتكثيف الرؤيا بالارتداد عن الصغائر الذاتيّة والحسابات الضيّقة، مطلبٌ أجده مُحقًّا من أجل بلورة نصٍّ وجيز نقيّ قد يُدرج يومًا من بين النّصوص الخالدة.