ما اتجاهات المواجهة بعد فشل العدوان على غزة؟
} العميد د. أمين محمد حطيط*
رغم كلّ ما يمارسُهُ العدو «الإسرائيلي» من حجب للحقائق وتلفيق للمشاهد وتهويل وتهديد متفاوت المستويات والتوجّهات، فإنّ هناك حقيقة ساطعة لا يمكن لأحد أن يخفيها أو يحوّرها، حقيقة تؤكد انّ «إسرائيل» ورغم الدعم والمساهمة الأميركية الضخمة في الحرب، أنّ «إسرائيل» فشلت في حربها على قطاع غزة وعجزت عن تحقيق أيّ من أهداف عدوانها، فهي لم تصل الى أسير حيّ واحد ولم تسكت نيران المقاومة أو تحقق السيطرة المستقرة على أيّ من أجزاء القطاع، ولم تستطع رغم وحشية التدمير والقتل وفظائع جرائم الإبادة التي ارتكبتها لم تستطع أن تقتلع الشعب الفلسطيني من أرضه في القطاع، ما أفشل أحد أهمّ أهداف الحرب وهو التهجير وجعل نتنياهو يتحوّل إلى مقولة «الهجرة الطوعية» بدلاً من «التهجير الإكراهي»، وهو يعلم أنّ كلا الامرين لن يتحقق.
ومع هذا الفشل الذي بات حقيقة واقعة لا ينكرها إلا من كان غير سويّ في نظرته او فهمه، فـ «إسرائيل» هاجمت من أجل أهداف عجزت عن تحقيقها ما يعني أنها هزمت في المواجهة، عملاً بالقاعدة الحاكمة التي تقول «يكون مهزوماً المهاجم الذي يفشل في تحقيق أهداف هجومه». طبعاً لم تتحدث القاعدة عن كلفة النصر والهزيمة واقتصرت في توصيف الهزيمة بأنها فشل في تحقيق الأهداف وهذا ما هو متحقق في وضع «إسرائيل» التي هاجمت قطاع غزة من أجل تحقيق أهداف أعلنتها وضوحاً وفشلت في تحقيق أيّ منها ما يجعل هزيمتها هزيمة تامة بالمعنى والمصطلح العسكري، ويطرح السؤال ماذا بعد الهزيمة؟
قبل الإجابة لا بدّ من التنويه أنّ هزيمة «إسرائيل» المتشكلة بعد 11 أسبوعاً من الحرب، ليست من طبيعة الهزائم التي تتحقق بسبب تدمير الوسائل والحرمان من الإمكانات والقدرات القتالية، إذ رغم كلّ ما لحق بآلتها العسكرية من أضرار لا يمكن القول بأنها فقدت قدرتها العسكرية على مواصلة القتال، لذلك يبقى استمرارها في الميدان أمراً قائماً الى جانب خيارات أخرى تمليها ظروف الكيان الصهيوني وواقعه والبيئة التي يتحرك فيها أو يتأثر بعناصرها. فما هي هذه الخيارات او ما هي السيناريوات التي قد يلجأ إليها العدو بعد فشله لا بل هزيمته حتى الآن؟
في جمع وتحليل لعناصر المشهد العام وواقع الميدان نستطيع أن نتصوّر أنّ العدو «الإسرائيلي» سيجد نفسه أمام عدة خيارات سلوكيّة ميدانيّة تدور بين مواصلة الحرب بالطريقة التي بدأ بها منذ شهرين حتى لا يُقرّ بالهزيمة، او الهروب الى الأمام عبر توسيع المواجهة وإشعال نيران حرب إقليمية تشارك فيها أميركا، او التراجع الى الخلف والدخول في حرب استنزاف مفتوحة يُعوّل عليها لكسر إرادة المقاومة وبيئتها، وأخيراً التحوّل الى التفاوض غير المباشر بحثاً عن حلّ بالدبلوماسية يخرجه من مستنقع يغرق فيه في غزة فأيّ من هذه الخيارات سيسلكها العدو؟
نبدأ بالخيار الأول، أيّ مواصلة الحرب بالطبيعة والأسلوب الذي تمّت به حتى الآن وهو خيار يجنّب «إسرائيل» الإقرار بالهزيمة ويطيل أمد نتنياهو في السلطة، ونرى أنّ هذا الخيار لن يكون مريحاً للعدو كما أنه لن يكون مجدياً فضلاً عن كونه باهظ الكلفة، حيث إنّ العدو عمل به في شمال القطاع وجنوبه وفشل في تحقيق أيّ إنجاز وأجبر على إخراج تشكيلات أساسيّة من الميدان لأنها خسرت أكثر من ثلث طاقاتها القتاليّة معطوفاً على قدر كبير من الخسائر في العديد والعتاد تجاوزت الـ 5000 إصابة في العسكر و750 آلية عسكرية، فضلاً عن كون هذا الخيار استنفد كامل مهلة الأسابيع العشرة التي أعدّ الكيان نفسه للحرب خلالها ما يجعلنا موضوعياً نستبعد هذا الخيار الذي لا يعمل به إلا مكابر او انتحاري فقد التوازن الفكري والتحليلي والقدرة على التمييز، ونحن نقول إنّ الحرب في جولتها الأولى انتهت وأخفق العدو فيها ولكن ماذا بعدها؟
فهل يذهب الى الخيار الثاني أيّ توسيع الحرب واشعال حرب إقليمية من باب لبنان، وهو فعل يسعى إليه نتنياهو شخصياً لأنه يحقق له غرضين، فهو من جهة يطيل أمد الصراع ويبعد عنه سيف المحاسبة التي تنتظره بعد الحرب وهو على يقين بأنّ حياته السياسية انتهت وانّ هذه الحرب هي العمل الأخير الذي يقوده، ومن جهة ثانية يستدرج أميركا للدخول في حرب إقليمية شاملة ضدّ حزب الله وإيران تنفيذاً لوعد قطعه بايدن عندما زار «إسرائيل» محتضناً لها بعد ٧ أكتوبر/ تشرين الأول ومنحها شيكاً مفتوحاً بالدعم المتعدّد الوجوه بما في ذلك محاربة أعدائها في الإقليم. وفي الميدان نلاحظ أنّ «إسرائيل» تقوم بما بالاستفزاز والتصعيد للوصول الى هذا الهدف وبهذا نفسّر سلوكها على الجبهة مع لبنان وتكرار تجاوز قواعد الاشتباك وضوابط الحرب المقيّدة القائمة منذ بدء المواجهة، كما وعملية اغتيال القائد في الحرس الثوري الإيراني الجنرال موسوي في دمشق.
نعم نتنياهو يسعى إلى توسيع الحرب لكن هذا الهدف كما يبدو حتى الآن دونه موانع نظراً للرفض الأميركي له، خاصة انّ بايدن بدأ يستشعر حجم الخسارة الشخصية من دعمه المفرط لـ «إسرائيل»، وكذلك فإنّ الدولة الأميركية العميقة لا ترى مصلحة أميركيّة لتوسيع الحرب بمشاركة قوات أميركية وأميركا تعتمد حاضراً استراتيجية إقفال الجبهات والتحوّل الى حرب البدائل، هذا من جهة ومن جهة أخرى لا يرى محور المقاومة مصلحة له في حرب شاملة بتوقيت وقرار إسرائيلي، رغم جهوزيته للمواجهة إذا فرضت. ما يجعلنا نستنتج بأنّ توسيع الحرب خيار مطروح، لكنه منخفض الاحتمال.
ونتحوّل إلى الخيار الثالث والذي تروّج له بعض المصادر الإعلامية والعسكرية او حتى السياسية الإسرائيلية عبر ما يسمّى بالمرحلة الثالثة والتي تتضمّن إخلاء «إسرائيل» للأماكن المبنية والخروج من عمق القطاع، ثم التمركز في شريط حدودي داخل القطاع يتراوح عمقه بين 500 م و1500 م، وبعدها القيام باستنزاف المقاومة وبيئتها عبر استمرار الحصار ومعالجة بنك أهداف منتقى تشكل معالجته وسيلة لحرمان القطاع من الأمن والسكينة ومنعه من الانصراف الى ترتيب أوضاعه بعد الحرب والضغط عليه حتى الاستسلام.
قد يكون هذا الخيار الأفضل بالنسبة للعدو لأنه يجنّبه الاستمرار بدفع الثمن الباهظ ولا يلزمه بوقف النار مع ما فيه من إقرار بالهزيمة المؤكدة أو الهزيمة المقنعة، كما أنه يُحرم سكان القطاع من العودة الى حياتهم الطبيعية ويفرض عليهم حرب استنزاف طويلة تنهكهم، لكن من سلبياته أمرين الأول استمرار عمل الجبهات المساندة خاصة من لبنان واليمن مع ما فيها من أضرار وخسائر هامة تلحق بكيان العدو أمناً واقتصاداً كما وفيها استمرار سكان المستعمرات في الجنوب والشمال خارج مساكنهم وعدم تقديم حلّ لقضية الأسرى، ومع ذلك قد يكون العمل بهذا الخيار «إسرائيلياً» هو الأرجح.
أما الخيار الأخير الذي يفرض نفسه منطقياً على المهزوم، هو خيار الحلّ السياسي الذي يفضي الى تحرير الأسرى وترتيب الأوضاع في القطاع وحوله، ونقول إنه خيار منطقي لأنّ فيه تحديداً للخسائر وخروجاً من المستنقع، لكن المقاومة ترفض الدخول فيه إنْ لم يكن مسبوقاً بوقف العدوان ووقف إطلاق النار لأنها ترفض التفاوض تحت النار؛ الأمر الذي يرفضه العدو الآن لأنه يجد فيه إقراراً صريحاً بالهزيمة في سقف لا يحتمله، لذلك يُصرّ على استبعاده حتى الآن مع انفتاح على تجزئته مرحلياً.
وعليه نجد انّ العدو ورغم شدة إرباكه وتخبّطه بين الخيارات، قد يكون بصدد التوجه لحرب استنزاف يروّج لها بعبارة الحرب الطويلة التي يمارسها وفقاً للخيار الثالث ثم ينقلب الى الحلّ التفاوضي الذي يعوّل عليه لحجب هزيمته. وهنا يكون على محور المقاومة مواجهة هذا الاحتمال بما لديه من قدرات أثبت أنه يعرف كيف يستعملها وفقاً لقاعدة التناسب والضرورة ووفقاً للتوقيت والمكان الذي يناسبه وليس وفقاً لتوقيت العدو ورغباته.
*أستاذ جامعي ـ خبير استراتيجي.