اللامركزية ترياق سُمّ البيروقراطية الإدارية في لبنان
} عباس قبيسي
اللامركزية الإدارية هي مفهوم يشير إلى توزيع السلطة وصناعة القرار من السلطة المركزية إلى المستويات الأدنى. وبعبارة أبسط، يعني ذلك نقل بعض المسؤوليات إلى كيانات محلية أو إقليمية، بدلاً من السيطرة على كل شيء من قبل سلطة مركزية عليا بعيدة. تهدف هذه العملية إلى تعزيز الكفاءة والاستجابة والحوكمة الفعّالة من خلال السماح باتخاذ القرارات من قبل أولئك الأقرب إلى القضايا والذين لديهم فهم أفضل للاحتياجات المحلية.
لقد أصبحت اللامركزية ذات أهمية متزايدة في العديد من البلدان في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك بلدنا، لأنها تسمح بشكل أكثر شمولاً وتشاركاً في الحكم. ومن خلال منح الحكومات أو المنظمات المحلية سلطة اتخاذ القرارات، فإنها تسمح بإيجاد حلول مخصصة للمشاكل المحلية، وتعزز مشاركة المواطنين في عمليات صنع القرار. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تعمل اللامركزية الإدارية أيضاً على تعزيز المساءلة إذ يمكن للسلطات المحلية أن تكون أكثر شفافية وخضوعاً للمساءلة أمام مجتمعاتها. من المهم فهم كيفية عمل اللامركزية الإدارية وفوائدها المحتملة لأنها تلعب دوراً حاسماً في تشكيل السياسات وتعزيز نظام حكومي أكثر كفاءة وفعالية.
أين أصبح مشروع قانون اللامركزية في لبنان؟
أثبتت الأزمات اللبنانية المتلاحقة على الصعد الاقتصادية والتعليمية والصحية والمعيشية، بشكل لا يقبل الشك أنّ النظام المركزي لم يعد يصلح لإدارة البلاد والعباد، وبات يثير جدلاً، ويعيق الإصلاحات والتقدم لأننا ما زلنا نعمل بقانون رجعي تم التعلق بأطراف حباله طويلاً وما زال يمارس طقوسه حتى يومنا هذا إنكاراً بعدما وصلنا إلى الحائط المسدود.
نص اتفاق الطائف في البند الثالث، على تطبيق اللامركزية الإدارية لكن نادرة هي الدراسات المتخصصة والجلسات الملحقة التي حاولت مقاربة الموضوع وفق آلية تطبيق تضمن نجاحها، وتُفنِّدُ تحديات تطبيقها بين النظرية المثالية والواقع المضني وهنا تتعمّق الأزمة عندما يطغى التحليل والتكهّن بتقلبات أطراف التدافع السياسي، علاوة عن ذلك أضحى هذا النمط يطغى على الفعل التحاوري في الشأن العام سواء كان سياسياً أو مناطقياً أو غير ذلك.
النص الحرفي للبند الثالث في اتفاق الطائف:
(الإصلاحات الأخرى)
الفقرة (أ) اللامركزية الإدارية:
1 – أن الدولة اللبنانیة دولة واحدة موحدة ذات سلطة مركزیة قویة.
2 -توسیع صلاحیات المحافظین والقائمقامین، وتمثیـل جمیـع إدارات الدولـة فـي المنـاطق الإداریـة علـى أعلـى مسـتوى ممكن تسهیلاً لخدمة المواطنین وتلبیة لحاجاتهم محلياً.
3 -إعادة النظر في التقسیم الإداري بما یؤمّن الانصهار الوطني وضمن الحفاظ على العیش المشترك ووحدة الأرض والشعب والمؤسسات.
4 – اعتماد اللامركزیـة الإداریـة الموسـعة علـى مسـتوى الوحـدات الإداریـة الصـغرى (القضـاء ومـا دون) عـن طریـق انتخاب مجلس لكل قضاء یرئسه القائمقام، تأمیناً للمشاركة المحلیة.
5 – اعتماد خطة إنمائیة موحدة شاملة للبلاد قادرة على تطویر المناطق اللبنانية وتنمیتها اقتصادیاً واجتماعیاً وتعزیز موارد البلدیات والبلدیات الموحدة والاتحادات البلدیة بالإمكانات المالیة اللازمة.
أصدر رئيس مجلس الوزراء اللبناني بتاريخ 7/11/2012 قراراً يحمل الرقم 166/2012 شكّل بموجبه لجنة لإعداد مشروع قانون لتطبيق اللامركزية الإدارية حيث عقدت اللجنة جلسات عمل في القصر الجمهوري أنجزت من خلالها مشروع قانون اللامركزية الإدارية إضافةً إلى التقرير الذي يفسّر مشروع القانون والأسباب الموجبة، وفيما يلي، مشروع قانون اللامركزية الإدارية:
1 – هو مشروع يأخذ بالإجماع اللبناني حول اللامركزية الموسعة انطلاقاً من اتفاق الطائف. وإذا كان المشروع يعطي فعلاً أوسع الصلاحيات للمناطق، فهو يبقيها ضمن الدولة الواحدة الموحدة بعيداً من أي منحى تقسيمي.
2 – هو مشروع يعتمد اللامركزية فعلاً لا قولاً من حيث استحداث مجالس منتخبة بالكامل وإعطاؤها ليس فقط الاستقلالين الإداري والمالي وإنما أيضاً التمويل والواردات اللازمة (وهي العصب) ويحصر الرقابة إلى أقصى حد ويجعلها لاحقة لا مسبقة.
3 – هو مشروع يبقي على البلديات كوحدات لامركزية أساسية ولا يمسّ بصلاحياتها أو بأموالها ويعتمد القضاء كمساحة لامركزية، نظراً الى شرعيته التاريخية والى تأمينه الحاجات التنموية.
4 – كما أنّ المشروع يستحدث صندوقاً لامركزياً يحلّ محلّ الصندوق البلدي المستقلّ ويكون أعضاء مجلسه منتخبين ويعمل وفقاً لقواعد منهجية ولمعايير توزيع تعتمد مؤشرات (indices) موضوعية تراعي ضرورة الإنماء المتوازن وتحفيز النمو المحلي.
بحسب دراسة أُعدّت عن مشروع القانون، «تنقل صلاحيات ومهام واسعة من السلطة المركزية إلى مجالس الأقضية، شرط تأمين الموارد المالية اللازمة لممارسة هذه الصلاحيات، وأن يتمّ زيادة نسبة الإنفاق في الإدارات المحلية (بلديات وأقضية) من إجمالي إنفاق الحكومة المركزية إلى حدود 25% كحدّ أدنى أيّ ربع إنفاق الحكومة، في الوقت الذي لا تتعدى فيه نسبة إنفاق البلديات واتحاداتها حالياً في الأقضية 7% من نسبة الإنفاق المركزي، وهي نسبة غير كافية، وطلبت أن يتمّ تأمين 40% من هذا المبلغ من خلال الصندوق اللامركزي، 60% منه من خلال الضرائب المباشرة وغير المباشرة والرسوم، على أن تستوفي مجالس الأقضية، بصورة مباشرة، بعض الضرائب والرسوم التي تستوفيها خزينة الدولة». وعقدت اللجان المشتركة واللجان الفرعية في المجلس النيابي لدراسة مشروع القانون عدة اجتماعات في السنوات السابقة واقترحت بعد التعديلات على قانون اللامركزية الإدارية، وتوصلت الى نص يؤمن نهضة إنمائية للأقضية دون أن يمسّ بأي حال من الأحوال بالوحدة الوطنية على جميع الصعد دون إقراره لغاية تاريخه.
وتعدّ تجربة بعض الدول الغربية كبريطانيا وكندا وأستراليا من أبرز الأدلة على فعالية هذا النظام، حيث تمكنت هذه الدول من توفير خدمات عالية الجودة للمواطنين عبر تطبيق اللامركزية الإدارية، فقطاع الصحة في بريطانيا هو مثال على القطاعات التي تشملها اللامركزية الإدارية، حيث تدير السلطات المحلية (Local authorities) برامج الرعاية الصحية في مناطقها، بالإضافة إلى أنّ الحكومة المركزية تتولى مسؤولية تنظيم الرعاية الصحية على المستوى الوطني. وهذا يعني أنّ القرارات المتعلقة بالرعاية الصحية مثل تحديد الأولويات، وتنظيم الخدمات وإدارة الميزانية يتخذ على المستوى المحلي والمركزي يتمّ تمويل NHS (National Health Service) تمويل خدمات NHS عبر الضرائب المدفوعة من السكان ويتم تنظيمها وإدارتها محلياً من خلال هيئات إدارية محلية تعرف بـ «Clinical Commissioning Groups» والتي تعمل على تحديد احتياجات المنطقة وتحديد الميزانية وتوجيه الخدمات الصحية بشكل محلي، وهذا يتيح للمناطق المختلفة في المملكة المتحدة أن تعمل وفقاً للاحتياجات المحلية. قطاع التعليم هو واحد من القطاعات التي يشملها اللامركزية الإدارية في نيوزيلندا، في النظام اللامركزي الحالي، تتولى المدارس الحكومية والخاصة والمدارس المجتمعية والتعليم العالي مسؤولية إدارة أنفسها بشكل مستقلّ، مع التوجيه الكامل من الحكومة المركزية فقط في ما يتعلق بالمعايير الوطنية للتعليم والتقييم. يتمّ تمويل تلك المدارس من خلال الحكومة المركزية، ولكنها تحظى بحرية كاملة في التخطيط الاستراتيجي وتوزيع الموارد والتعيينات، هذا النهج يفسح المجال للمدارس لتحقيق احتياجات المجتمعات المحلية بشكل أفضل، وتحديد الأولويات التعليمية والتخطيط لتحسين النتائج التعليمية.
تعتبر اللامركزية الإدارية نهجاً حاسماً في تعزيز عمليات الحكم وصنع القرار على المستوى المحلي. ومن خلال هذه الطريقة، يتمّ تفويض السلطات والمسؤوليات من السلطات المركزية إلى مجالس الأقضية، عبر دمج البلديّات الصغيرة مع المحافظة على نسبيّة التمثيل الانتخابي للقرى، وإنشاء ما يسمّى بالمناطق الإدارية التي تتكوّن من تجمّع للبلديات على أن تشمل مساحتها الأقضية الحاليّة، وإعطاء الصلاحيّات الماليّة والإدارية الفعليّة للبلديّات والمناطق لتمكينها من القيام بالمشاريع اليومية بمعزل عن أيّ قرار مركزي، مما يسمح بإدارة فعّالة للموارد وتوفير الخدمات العامة المصمّمة لتلبية احتياجات المجتمع. علاوة على ذلك، تشجع اللامركزية الإدارية مشاركة المواطنين، وتعزز القيم الديمقراطية وتقوي العلاقة بين المواطنين وحكومتهم. إنّ تبني اللامركزية الإدارية يمكن أن يؤدّي إلى أنظمة حكم أكثر شفافية ومساءلة وكفاءة، مما يفيد في نهاية المطاف النمو والتنمية الشاملة المستدامة.
على أيّ حال، بقيت عقبات كثيرة معظمها سياسي حال دون إقرار وتطبيق مشروع قانون اللامركزية الإدارية في لبنان بالإضافة إلى معاكسة بعض الظروف القاسية التي ما زال يمرّ بمخاضها الوطن أقلّه في العقدين الأخيرين من الزمن، قحط على كافة المستويات المالية والاقتصادية والصحية والاستشفائية، ولا زلنا نتجرّع سُمّ المركزية ونذوق مرارة البيروقراطية الإدارية ومساوئها ونتلوّى على فراش أوجاعها والدولة لم تُجهد نفسها لشقّ الطريق أمام التنفيذ حتى يومنا هذا عسى أن يكون ذلك قريباً.