عام جديد ببصمة غزاوية
} د. حسن أحمد حسن*
عندما يستفتح المقاومون الفلسطينيّون الدقائق الأولى من العام الجديد 2024. بصليات صاروخيّة تلوّن سماء تل أبيب، وترغم المستوطنين المقيمين هناك على الانخراط الجماعيّ في وصلة رقص خاص على أنغام صفارات الإنذار التي تنطلق في أكثر من مدينة، فهذا يعني قبل كل شيء كذب الدعاية الإسرائيليّة وبخاصة تلك التي يسوّقها إعلام جيش الاحتلال الذي سبق وأكد قبل ساعات من إطلاق الصواريخ الغزاوية أن قواته دمّرت أكثر من 80 ـــ85% من قدرة حماس وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية على استهداف الداخل الاستيطانيّ المحتلّ بالصواريخ، لكن الواقع الفعلي القائم يقول عكس ذلك، ويأتي الجواب عبر بيان عملي تكتيكي بالذخيرة الحية ليقول للمستوطنين جميعاً: إن جيشكم يكذب عليكم، وهذا كفيل بزيادة حدّة الشرخ في الداخل الإسرائيلي المأزوم والمنقسم بحدّة حتى في المجلس الوزاري المصغر» كابينت الحرب»، والغريب أن يسارع بعد كل ما حدث ويحدث من يهوّل على جمهور المقاومة ويحذر من إمكانية خروج الأمور عن السيطرة وتمكن نتنياهو وحكومته من الهروب إلى الأمام وتوسيع دائرة كرة النار وتدحرجها لتشمل جبهات أخرى. وقد يكون من المفيد هنا الإشارة إلى عدد من الأفكار المهمة والعناوين الرئيسة التي تساعد على توضيح الصورة البانورامية بشكل أفضل، ومنها:
ـ في الاستراتيجيا العسكرية لا يمكن استبعاد أيّ سيناريو عن طاولة البحث والتحليل مهما كانت نسبة حدوثه متدنيّة، ولم يسبق لأيّ طرف من أطراف محور المقاومة أن ألغى سيناريو كهذا من قائمة الاحتمالات الممكنة، وليس هذا فحسب بل من المسلم به أن القرار الأهم يتمّ اتخاذه استناداً إلى أسوأ خيار يمكن للعدو أن يتخذه، وهذا يعني: إذا كان توسيع مدى المواجهة المفتوحة إلى أقصى ما يمكن أن تقدم عليه حكومة نتنياهو بدعم أميركي وأطلسي، فالقرار الذي يتم العمل بموجب تداعياته المحتملة هو ما يحكم عمل أطراف محور المقاومة تخطيطاً وحسابات وجاهزية للانتقال إليه في أي لحظة تهوّر تُقدم عليها تل أبيب، وبالتالي لا مبرر للتهويل، ولا خوف من ذلك، ومهما كانت النتائج والتداعيات لن تكون مفاجئة للمحور المقاوم.
ـ عندما تشدّد إدارة بايدن على أهميّة تقديم نتنياهو وحكومته إجابة عن اليوم التالي للحرب، فهذا لا يعني أن بمقدور واشنطن تقديم مثل تلك الإجابة المطلوبة، أو تبني إجابة محتملة وممكنة قط، بل يعني التنصل من المسؤولية في الوقت الذي يدرك فيه الأميون في السياسة أنّ الإدارة الأميركية مسؤولة بشكل مباشر عن ذلك، وليس بمقدور أي حكومة إسرائيلية رفع سقوف عدوانيتها وعنصريتها المحكومة بالفشل الحتميّ والعجز عن تحقيق الأهداف الاستراتيجيّة المعلنة إلا بمباركة أميركية. ومن البدهي أن يتساءل المتابع العادي عن رؤية واشنطن لليوم التالي، وهل هي جادّة فعلاً بمسألة حلّ الدولتين، وكيف؟ وما مدى إمكانية النجاح في بلوغ ذلك؟
ـ تسويق قرار وزير الخارجية بلينكن في 29 كانون الأول الماضي ببيع الكيان قذائف مدفعية ميدان عيار/155ملم/ ومعدات مرتبطة بها من دون العودة إلى الكونغرس بسبب الظروف الطارئة في الداخل الإسرائيلي، وهذا يعني أن الحرب على غزة استنفدت مخازن جيش الكيان، وغدت شبه فارغة من المتطلب الرئيس لاستمرار وتيرة العدوان كما هي عليه، والجميع يعلم أن تلك المخازن لطالما كانت متخمة بالحاجة وبالاحتياط الكبير والفائض عما يتطلبه خوض حرب شاملة وفق العرف الإسرائيلي. وهذا يعني الفشل الذريع في التأثير على القدرة القتالية للمقاومة الفلسطينية على امتداد جبهات غزة، فكيف إذا توسّعت دائرة اللهب؟
ـ إعلان البحرية الأميركية أنّ حاملة الطائرات جيرالد آر. فورد وجميع القطع البحريّة التابعة لها والتي تمّ إرسالها في أعقاب عملية طوفان الأقصى إلى شرق البحر الأبيض المتوسط للمساهمة في ما أسموه: «الردع الإقليمي» ستعود إلى قاعدتها الأصلية في الولايات المتحدة الأميركية، وهذا يعني اطمئنان واشنطن ـــ الظاهري على أقلّ تقدير ـــ بأن الآتي من الأيام يتجه نحو تبريد الصفيح الساخن، وليس نحو المزيد من التسخين الذي قد يخرج عن السيطرة.
ـ الاطلاع السريع على ما ينشر في وسائل الإعلام الإسرائيلي يؤكد ازدياد التخبّط والخوف الكبير من التداعيات المتسارعة على الرغم من كلّ الخسائر والدمار الذي ألحقته آلة القتل والتدمير الصهيونية بغزة والفلسطينيين، كما يوضح حقيقة الغضب غير المسبوق من حالات الضعف والعجز عن التعامل الحاسم مع مفرزات الحرب التي لم يسبق للكيان المؤقت بمستوطنيه وعسكرييه ومسؤوليه أن بلغها منذ إعلان قيامه عام 1948.
ـ دلالات سحب لواء غولاني ولواء المظللين من مسرح العمليّات القتالية تؤكد أنه لا يمكن البناء على ما يمكن أن تنجزه قوات النخبة التي تجاوزت خسائر بعضها نسبة «الإعطاب» المتراوحة بين 20 ـــ 25% ودخلت مرحلة فقدان الجاهزية القتالية، أي أن نسبة الخسائر وصلت إلى 40 ـــ 50% مما فرض سحبها لترميمها ــ إن أمكن ــ خارج ساحة العمليات القتالية. وهذا يعني إمكانية تكرار حالة «غير جاهز» في صفوف بقية التشكيلات المقاتلة.
ـ عندما تعلن القناة «12» العبرية عن قرار نتنياهو بمنع حضور رئيس الشاباك ورئيس الموساد اجتماعاً خاصاً لمناقشةٍ أمنيّةٍ حساسة، فهذا يعني التوجه لتنفيذ أمر جلل بعيداً عن علم الاستخبارات الداخلية والخارجية بآن معاً، وهذا بحدّ ذاته يثير عشرات التساؤلات وإشارات الاستفهام والتعجب لدى الداخل الإسرائيليّ وخارجه.
ـ الصفعة الأشدّ التي تلقاها نتنياهو وحكومته الأكثر عنصريّة وتطرفاً أتت من داخل الكيان المؤقت ذاته عبر قرار المحكمة الإسرائيلية العليا برجحان كفة ثمانية أصوات مقابل سبعة واعتماد القرار المتضمّن إلغاء التعديلات التي طالبت بها حكومة نتنياهو على ما يُسمّى «قانون المعقوليّة» الذي يحدّ من إشراف المحكمة العليا على الحكومة، الأمر الذي هدّد سابقاً رموز التطرف في حكومة نتنياهو بالانسحاب من الحكومة في حال لم يتمّ إقرار تلك التعديلات، ونسبة سبعة أصوات ضدّ وثمانية أصوات مع، تعكس حقيقة الانقسام الحادّ في الداخل الإسرائيلي، وما قد يسفر عنه مثل هذا الانقسام الشاقوليّ من تداعيات تضع مستقبله على كف عفريت حتى من دون خوض حروب مقيّدة أو شاملة.
ـ حالة الاستعصاء المزمن الذي تعاني منه تل أبيب تجعل من عامل الوقت سيفاً مسلطاً فوق رقبة نتنياهو وحكومته، وهذا يمنح الصمود الأسطوريّ للمقاومة الفلسطينيّة قوة إضافيّة تجعل البصمة الغزاوية العلامة الأبرز للعام 2024. ومن حق المتابع العادي أن يتساءل: وماذا لو ازداد أوار الحراك الفلسطيني في أراضي 48 والضفة الغربية ضمن هذا الجو المشحون بكل المتناقضات التي تترك المستقبل القريب للكيان المؤقت مفتوحاً على كل الاحتمالات…
*باحث سوريّ متخصّص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجيّة.