أولى

مستقبل الصراع في غرب آسيا بين الحماقة والواقعية

‬ زياد حافظ*
الإنجازات التي تراكمها المقاومة في غزّة لها انعكاسات مفصلية ليس فقط على مسار ومصير الصراع مع الكيان الصهيوني فحسب، بل أيضاً على الوجود الغربي في المنطقة وهيمنته المتراجعة في العالم. الهزيمة العسكرية المدوّية للكيان الصهيوني ومعه مجمل الغرب بشكل عام ستليه حتماً هزيمة سياسية وثقافية. وليست مبالغة تصريحات قيادات الكيان ومعها تصريحات قيادات غربية من أميركية وبريطانية على الأخص أنّ الهزيمة في غزة هي هزيمة للحضارة الغربية. لكن هل تستطيع موازين القوّة في الغرب منع ذلك؟
في مقاربة عناصر موازين القوة هناك عناصر عديدة منها ما يمكن قياسها بشكل ملموس كعدد القوّات العسكرية، والجهوزية العسكرية، والإمكانيات الاقتصادية والمادية، وذلك على سبيل المثال وليس الحصر. وهذه العناصر من مكوّنات ما يُسمّى بفائض القوّة. لكن هناك أيضاً في تكوين موازين القوّة عناصر يصعب قياسها بشكل مادي ولكنها مهمة للغاية إنْ لم تكن تفوق بالأهمية عناصر فائض القوّة المادية. وهذه العناصر تشكّل ما يمكن تسميته فائض القيمة التي تكمن في نوعية القيادات والمشاريع السياسية أو «الرسالات» التي تحملها والتي تعطي أو تلغي مصداقية عناصر فائض القوّة، وذلك أيضاً على سبيل المثال وليس الحصر. وبالتالي في مقاربتنا لمسار الصراع القائم بين المقاومة والكيان الصهيوني لا بدّ من وضع ذلك الصراع في سياقة الكوني أيّ صراع بين مشروع تحرّري ومنظومة سياسية عسكرية اقتصادية وثقافية بنت أمجادها على إبادة الشعوب واحتلال البلاد وإخضاع من بقي ونهب الثروات. هنا يبرز التناقض بين فائض القيمة في المشروع التحرّري وناقص القيمة في المشروع التسلّطي الاستعماري الغربي والصهيوني.
بناء على تلك المنهجية في التحليل والاستشراف نعتقد أنّ مسار الصراع القائم سيتأثر بالتغييرات في موازين القوّة للعناصر غير الملموسة كنوعية القيادات في محور العدو والغرب عموماً. والتركيز على نوعية القيادة مهمّ لأنه يفسّر طبيعة الخيارات والسياسات والاستراتيجيات والتكتيكات التي اتبعها وما زال وما يمكن أن يبتدعها. وهذه الخيارات مرتبطة بشكل عضوي في بنية النظام السياسي والاقتصادي والعسكري والثقافي الموجودة التي أصبحت مسؤولة عن إنتاج قيادات من النوع الذي نشهده. فهل من الصدف أن يكون الخط البيانيّ للنخب الحاكمة والطامحة للحكم والسلطة في الكيان ودول الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص خطاً انحدارياً تتزايد نسبة الانحدار بشكل كبير؟ فهل يمكن اليوم مقارنة نوعية قيادات العدو مع القيادات التي أسست الكيان في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي؟ وهل مستوى القيادات في الغرب اليوم متجانسة مع مستوى القيادات التي أسست للسوق المشتركة وفيما بعد للاتحاد الأوروبي؟ هل الرئيس الفرنسي ماكرون بمستوى ديغول أو ميتران؟ هل اولاف شولز بمستوى اديناور أو ويلي براندت أو هلموت كول؟ هل رئيس وزراء المملكة المتحدة الحالي بمستوى هارولد ولسون أو مارغريت تاتشر؟ أما في الولايات المتحدة هل الرئيس الحال بايدن بمستوى فرانكلن روزفلت أو جون كندي أو ريتشارد نيكسون؟ وكذلك الأمر بالنسبة لإيطاليا وسائر الدول الأوروبية والمسؤولين داخل منظومة الاتحاد الأوروبي!
السؤال البديهي الذي يجب طرحه هو لماذا ذلك التردّي في المستوى سواء على صعيد المعرفة أو الفهم أو الأخلاق؟ الإجابة السريعة والتي يمكن أن نفصّلها في مكان آخر هو طبيعة النظام السياسي القائم في الغرب والذي يدّعي أنه نظام المؤسسات وحكم القانون والديمقراطية هو نظام تمّ السطو عليه من قبل الأوليغارشيات المالية التي أصبحت تتحكّم بكافة مفاصل السلطة والاقتصاد والمال والجامعات والإعلام. فالطامحون للمناصب العامة مدينون بوجودهم في المراكز لمموّل الحملة الانتخابية وليس للناخبين. هكذا قالت بصراحة مدهشة على سبيل المثال وزيرة الخارجية الألمانية انالين باربوك أنها لا تكترث لأصوات الناخبين بل لتنفيذ الأجندة التي تتبنّاها والتي من أجلها تم «إيصالها» الى موقع المسؤولية عبر التمويل للمصالح الخاصة. كذلك الأمر في الولايات المتحدة حيث المسؤولون السياسيون المنتَخبون يدينون بمواقعهم لمن ساهم في تمويل حملاتهم الانتخابية، وذلك من مستوى العمدة في المدينة إلى حاكم الولاية الى النائب في مجلس الممثلين إلى الشيخ في مجلس الشيوخ وطبعاً إلى الرئيس في البيت الأبيض. وكذلك الأمر بالنسبة لمستويات القضاء التي يتم ملؤها عبر الانتخاب. فحكم المال أجهض فعاليّة المؤسسات التي تشكّل ركيزة النظام السياسي القائم والذي تمّ تسويقه بأنه النظام الأمثل والذي استطاع أن ينتصر على النظام المنافس كالنظام الشيوعي.
هذه النوعيّات المتردّية أوصلت الدول الغربية إلى المآزق المتراكمة حيث أصبح الاستعصاء على حلّ المشاكل السمة الرئيسية للأزمات القائمة. وبما أن سطوة المال هي الفيصل في تحديد من يصل إلى موقع المسؤولية فالمحاسبة والمسائلة تصبح من النظريات التي يتم تسويقها ولكن دون أي تنفيذ. لم تتم مساءلة ومحاسبة من دمّر يوغوسلافيا، ومن بعد ذلك احتلال أفغانستان والعراق، وتدمير ليبيا، والعدوان الكوني على سورية، والعدوان على اليمن، وتدمير أوكرانيا، وأخيراً عدوان الإبادة على غزّة. بل العكس، نرى أن المسؤولين عن تلك المآسي تمّت ترقيتهم ومكافأتهم بدلاً من إقصائهم عن السلطة وربما زجّهم في السجون. فعدم المساءلة والمحاسبة يحفّز على تكرار الأخطاء والخطايا غير أن ما يحصل الآن في غزّة عرىّ تلك القيادات. لكن في ظل النظام القائم في الكيان والدول الغربية فإن الهروب إلى الامام هو الاستراتيجية المعتمدة لتجنّب المساءلة والمحاسبة.
وهنا تكمن الخطورة حيث الحماقة وحماية الذات والتمسّك بالسلطة قد يطيح بأي مقاربة لما يحصل على قاعدة تقدير دقيق لموازين القوّة. من هنا نرى الخطط العبثيّة في تدمير غزّة بغية «اقتلاع» حماس إلاّ أن الهدف غير المعلن هو جعل القطاع غير صالح لإيواء الفلسطينيين المقيمين وحثّهم على الهجرة أو الموت. فمن يرتكب عن سابق وتصوّر جريمة الحرب وجريمة ضد الإنسانية لن يتوارى عن اللجوء إلى قرارات أكثر حماقة تهدّد ليس استقرار المنطقة بل السلم العالمي. فالهروب إلى الأمام هو ما تبقّى لنتنياهو الذي يجهد لجرّ وتوريط الولايات المتحدة في حرب إقليمية تذوّب مسؤولية الكيان ورئيس حكومته. بالمقابل، هناك وقائع مادّية تحول دون إمكانية ارتكاب الحماقة وهي أولاً عدم الجهوزية العسكرية في العدد والعتاد لحرب مفتوحة في المنطقة. ثانياً، ليس هناك من دعم سياسيّ شعبيّ في دول الغرب والولايات المتحدة للإقدام على شن حرب إقليمية تنذر بحرب عالمية مع كل من روسيا والصين. ثالثاً، ليست اقتصادات الدول الغربية في منأى من تداعيات الحرب الإقليمية التي قد تعطّل شرايين النفط والغاز إضافة إلى شرايين التجارة البحرية العالمية.
هذه الموانع قد لا تكون كافية لدى مَن يعتقد أن الحل هو الهروب إلى الأمام ومَن يتبنّى عقيدة شمشوم أي عليّ وعلى أعدائي. المحافظون الجدد والليبراليون المتدخلون في الولايات المتحدة يسيطرون على مقاليد الحكم وسياساتهم ليست مبينة على تقدير الموقف بل على الأيديولوجية التي تدفعهم. فلا يكترثون للنتائج السلبية ويستمرّون في المزيد من السياسات الخاطئة. في منتصف العقد الماضي كانت قوى داخل الدولة العميقة في الولايات المتحدة تشكّل نوعاً من التوازن مع جنون المحافظين الجدد الذين سببّوا حماقة احتلال أفغانستان والعراق والمشروع العبثي لإعادة رسم خريطة المنطقة. فكانت لجنة باكر هاملتون التي أدخلت بعض العقلانية في السياسة الخارجية. لكن هذه اللجنة أو بالأحرى ما تمثّله لم تعد قائمة. فالنخب الحاكمة أصبحت مدينة بشكل مطلق للشركات العملاقة في المجمع العسكري الصناعي والمالي التي تستفيد من حالة الفوضى والتوتر على الصعيد الخارجي كما على الصعيد الداخلي. وبالتالي عنصر العقلانيّة متراجع إلى حد الغياب في صنع القرار السياسي. من هنا نفهم التناقضات في القرارات والمحاولات الفاشلة في ترقيع الإخفاقات في كل من الصراع في أوكرانيا وحالياً في غرب آسيا. فالحرب لم تعُد محصورة في قطاع غزة بل تشمل كل فلسطين، وجنوب لبنان وسورية العراق والبحر الأحمر. المناوشات مع قطع من الأسطول الأميركي في البحر الأحمر أو الغارات الأميركية على مواقع في العراق وسورية والعدوان الصهيوني المستمر على سورية، فكل ذلك يشكل مشهداً يصعب التحكّم في إيقاعه من قبل الولايات المتحدة. فاحتمالات الانزلاق تتزايد يوماً بعد يوم مع خفّة القرارات التي تتخذها يومياً.
وهذه الخفّة لا تقتصر على القضايا العسكرية بل تشمل أيضاً القضايا الاقتصادية والمالية. فعلى سبيل المثال فإن الإدارة الأميركية وقيادة الاتحاد الأوروبي تعملان على سطو الاحتياط النقدي لروسيا المقدّر بـ 300 مليار دولار رغم التحذيرات الصادرة عن صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والاقتصاديين المرموقين، والماليين الذين يعتبرون هذه الخطوة حماقة لا تغتفر قد تنسف الثقة بالنظام الاقتصادي والمالي والقضائي الغربي. حالة الإنكار والمكابرة تدفع بالحماقة لاتخاذ قرارات تؤدّي إلى الهاوية. والغرب يحتضر ولكن قبل أن ينكفئ أو يزول فاحتمالات عقدة شمشوم قائمة. لا يستطيع الغرب تحمّل انتصار روسيا في أوكرانيا ولا يستطيع تحمّل هزيمة الكيان الصهيوني في فلسطين. وما يجعل إمكانية الحماقة مرتفعة جدّا هي انقطاع النخب الحاكمة في الغرب وفي الكيان عن شعوب هذه الدول وعدم الاكتراث لإرادتها. ففقدان المشاركة والمشاورة يزيد من احتمالات ارتكاب الأخطاء وخاصة تلك الناتجة عن الاتباع والتمسّك بأيديولوجيات برهنت عن عقمها وفشلها.
وفيما يتعلّق بالصراع القائم في فلسطين وغرب آسيا فإن الضغط الذي يُمارس على رئيس الكيان لإنهاء الحرب بأقلّ خسائر ممكنة ولكن مع حتمية إنهاء حياته السياسية وربما حرّيته إذا ما تمّت محاكمته، كما هو مرتقب، فهذا الضغط يجعله جاهزاً للهروب إلى الامام لتجنّب الاستحقاقات القضائية والسياسية وبالتالي يجهد لجرّ الولايات المتحدة إلى مواجهة مع الجمهورية الإسلامية ومع حزب الله. لكن الولايات المتحدة غير جاهزة وغير قادرة على تلك المواجهة رغم وجود أصوات كالشيخ ليندسي غراهام أو المستشار السابق للأمن القومي جون بولتون اللذين يناديان بتوجيه ضربات على الجمهورية الإسلامية في إيران. والسؤال يصبح هل يستطيع نتنياهو توريط الولايات المتحدة فيما لا تريده على الأقل في الظروف الحالية؟ ليس من السهل توفير إجابة قاطعة لأن داخل الإدارة الأميركية وخارجها هناك من يتعاطف مع نتنياهو. لكن بالمقابل هناك أيضاً داخل الإدارة وخارجها من يعتبر أن سياسات نتنياهو سياسات عبثية تضرّ بالمصالح الأميركية. ونميل إلى الاعتقاد أن نتنياهو لن يوفّر فرصة لجرّ الولايات المتحدة وقد اتخّذ ذلك القرار. فهل يُسمح له بذلك أم ستتم الإطاحة به؟ هناك سباق بين الانزلاق إلى مواجهة شاملة والإطاحة بنتنياهو. هذا لا يعني أن البديل أحسن وينخرط في حل سياسي للصراع بل جميع البدائل تشاركه في العقلية والذهنية. ولكن تحميل نتنياهو المسؤولية للكارثة التي حلّت بالكيان قد يكون المخرج المطلوب أميركياً في الظرف الراهن.
ما يساعد نتنياهو في هربه إلى الأمام خفّة المسؤولين في الإدارة الأميركية. فعلى ما يبدو، يقول الرجل المخابراتي البريطاني السابق الستير كروك وصاحب موقع «منتدى حلّ الصراعات» (كونفليكت ريزوليوشون فوروم) الواسع الانتشار إن إدارة بايدن أعطت الضوء الأخضر لتوسيع رقعة القتال لتشمل لبنان. ويضيف أن ذاكرة حرب تموز 2006 مفقودة وذلك تعويضاً عن الخسارة في غزّة. وهذا ما يؤكّد وجهة نظرنا أن القيادات في الإدارة الأميركية ومعها في العديد من الدول الغربية من النوع الرديء جدّا ويفتقدون الحدّ الأدنى للمعرفة والفهم لتقدير دقيق للموقف. وينتهي بالقول إن ما يحكم كلاً من المسؤولين في الكيان وفي الإدارة الأميركية هو الغياب المطلق للعقلانية.
بالمقابل فإن الحماقة غير موجودة في محور المقاومة، على الأقل حتى الآن. وليس هناك من أي دليل على استعداد المقاومة في انزلاق في مسار لا تريده. لا تتهرّب من التصعيد والمواجهة الشاملة بل هي جاهزة لها لكن حساباتها دقيقة وصحيحة حيث توسيع رقعة القتال يفقد من أولوية تصدّر المكانة الفلسطينية في الصراع. حتى الساعة، المواجهة الفلسطينية لكيان العدو هي في صدر الأحداث ويجب أن تستمر إلى فترة طويلة حتى لا تذوب أهميتها في الاعتبارات الجيوسياسية الإقليمية والدولية. هذا لا يعني أن تلك الاعتبارات غائبة بل العكس هي في صلب المعركة. فالحرب في غزة كما الحرب في أوكرانيا جزء من معركة كونية ضد الهيمنة الغربية والأميركية، وبالتالي لا يمكن إخفاء إمكانية توسيع رقعة الصراع. لكن طالما زمام المبادرة بيد محور المقاومة فهي التي تحدّد آفاق وطبيعة المواجهة والتوقيت لها والوتيرة التي تخوضها في الكم والنوع والجغرافيا.

*باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى