البحر الأحمر خاصرة واشنطن الرخوة
ناصر قنديل
– بالتأكيد لم يكن في حساب كل من قيادة قوات القسام وقيادة كيان الاحتلال لدى إجراء أي تقييم استراتيجي لمواجهة متوقعة دائماً بينهما، حجم المكانة التي ظهرت فجأة للتهديد الاستراتيجي لقوة الردع الأميركي على المسرح الدولي، الذي مثله ولا يزال يمثله بتصاعد واضطراد، ما فعله ويفعله أنصار الله والجيش اليمني من إصرار على إثبات الحضور في البحر الأحمر، وتوظيف هذا الحضور لحساب ميزان القوى الضاغط لوقف العدوان الأميركي الإسرائيلي على غزة. وبمثل ما شكلت هذه المفاجأة خبراً ساراً للقسام وقوى المقاومة وعموم الشعب الفلسطيني، عبرت عنه حالة احتفالية مشفوعة بالتعبير عن الندم والاعتذار من أنصار الله والشعب اليمني لما لحق بهم من ظلم إعلامي وسياسي طوال سنوات تمّ تصويرهم خلالها كعبء على العرب والعروبة ونزعت خلالها عنهم وطنيتهم وعروبتهم، شكلت المفاجأة مصدر قلق وحيرة وارتباك على الضفتين الأميركية والإسرائيلية.
– ليس من المبالغة بشيء القول إن إدراك أنصار الله وحكومة صنعاء للميزات التي يوفرها وضع اليمن كدولة مشاطئة للبحر الأحمر مطلة على مضيق باب المندب، كان دائماً حاضراً في فهم أهمية وخطورة التحالفات الدولية والإقليمية الناشئة في قرار شنّ الحرب عليهم، وكذلك إدراك خطورة توظيف هذه الميزة وما قد تجلبه لهم وعليهم من متاعب ومخاطر، ولذلك أحجموا طيلة سنوات الحرب رغم كل ما رافقها من صعاب ومخاطر عن استثمار هذه الميزات لتحويل القدرة على التأثير على الملاحة في البحر الأحمر إلى ورقة من أوراق القوة التفاوضيّة، لكنهم لم يتردّدوا لحظة في فعل ذلك عندما بدأ العدوان على غزة، وتمّ التصدي لصواريخهم ومسيراتهم لمنعها من الوصول إلى جنوب فلسطين المحتلة وإلحاق الأذى بميناء إيلات ومنشآته الحيوية، بموجب تعاون أميركي عربي، ورسموا معادلة عبر عنها قائد الأنصار السيد عبد الملك الحوثي بصيغة لا لبس فيها، القوات اليمنية سوف تمنع أي سفينة إسرائيلية أو متجهة الى موانئ الكيان من عبور مضيق باب المندب حتى يتوقف العدوان على غزة ويفك الحصار عن أهلها.
– يشبه هذا السلاح الاستراتيجي واكتشافه، سلاح النفط واكتشاف أهميته وتوظيفه في حرب العام 1973، حيث في الحالتين تحوّلت الحرب الدائرة حول فلسطين إلى قضية تؤثر على الاقتصاد العالمي، ويشكل كل تفكير بحلها بالقوة إلى مفاقمتها بدلاً من حلها، لأن الاقتصاد ينمو في بيئة يختفي فيها السلاح وتوفر فيها الاستقرار المفاوضات والتفاهمات. وبمثل ما كانت المقاومة في فلسطين والمنطقة هي البديل الذي اكتشفته الشعوب لصناعة معادلة قوة بديلة، عندما قرّرت الدول التي تمتلك الجيوش الكبرى الخروج من حالة الحرب مع كيان الاحتلال دون حل قضية فلسطين، يمثل سلاح البحر الأحمر بديلاً مشابهاً لامتناع الدول النفطية عن توظيف النفط منذ حرب 73 كسلاح في الدفاع عن فلسطين، بل قرار أبرزها وأغلبها الدخول في مفاوضات لتطبيع العلاقات مع كيان الاحتلال، بعضها وصل إلى نهاياته وبعضها لا يزال خياراً على الطاولة بعدما جمّدته الحرب الراهنة ونزعت عنه المشروعيّة.
– من وجهة النظر الأميركيّة تبدو المفاجأة صعبة التصديق. وهذا يكشف ضحالة القدرة على الاستشراف والقراءة الاستباقية للمخاطر، في أرفع مؤسسات القرار الأمني والاستراتيجي في واشنطن، رغم إصرار بعض النخب العربية على الإدمان على ثقافة الترويج للعبقريّة الأميركيّة التي لا تقهر؛ بينما يجب توقع هذه الغربة الأميركية عن الواقع بمجرد أن نعلم أن أرفع منصب للأمن الاستراتيجي وهو مستشار الأمن القومي الأميركي، يشغله شخص اسمه جايك سوليفان، كان قد كتب مقالاً قبل أيام من طوفان الأقصى، وسلّمه لإدارة مجلة الفورين أفيرز لنشره في عدد تشرين الثاني للمجلة، يتباهى فيه بالإنجاز العبقريّ لإدارته بتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط وإبقائه بعيداً عن تشكيل بؤرة نزاع، ما وفر لواشنطن فرصة التفرغ لملفات المواجهة مع روسيا والصين. ووقعت الفضيحة عندما طلب سحبه بعد الطوفان لتعديله وأدار مفاوضات مع إدارة المجلة حول حدود المسموح بحذفه من المقال لحجب بعض الخفة والغربة الطاغيتين على المقال.
– اليوم، هناك في واشنطن ملفان كبيران على الطاولة، حرب غزة وحرب البحر الأحمر، وبنسبة تتصاعد تدريجياً لحرب جنوب لبنان وحرب إخراج القوات الأميركية من العراق وسورية، في ظل اعتقاد أميركي بأن الخطر في حربي غزة والبحر الأحمر استراتيجيّ غير قابل للاحتواء، واحد يهدّد كيان الاحتلال وجودياً إذا انتهت الحرب على هزيمة بائنة تلحق به، والثاني يهدّد في الصميم مشروع الهيمنة الأميركية على العالم، القائم منذ قرنين على التفوّق غير القابل للمنافسة في حروب البحار. وقد امتلأت صفحات وثائق الاستراتيجيات العسكرية الأميركية على مدى أكثر من نصف قرن، بفصول مخصّصة للحديث عن أهمية البحر الأحمر الذي يحتضن ثلث التجارة العالمية، ويتدفق عبره أكثر من نصف مستوردات الطاقة إلى أوروبا، وجاء أنصار الله وقالوا نحن هنا، وأثبتوا أنهم قوة قادرة، سبق للأميركي أن اختبر قدراتها في هجوم أرامكو قبل أربعة أعوام، عندما قرّر الرئيس دونالد ترامب إغلاق هواتفه والتهرّب من الرد على زعماء الخليج الذين أرادوا سؤاله عما ينوي فعله، كما اختبر عنادهم وثباتهم وعدم وجود فرص لإغرائهم بمقايضتهم المواقف الاستراتيجية بمكاسب سياسية واقتصادية.
– الموقف اليمني فرض عامل قوة غير مسبوق لصالح فلسطين، لكنه فرض أيضاً عامل إرباك للسياسات الأميركية في البحار، التي تستهدف روسيا والصين أكثر مما تستهدف اليمن، وتدرك موسكو وبكين أهمية ما يمثله ما يقوم به أنصار الله في إصابة المهابة الأميركية في أمن البحار والممرات المائية، بمثل ما تدرك روسيا والصين حجم تأثير طوفان الأقصى، ولاحقاً حرب غزة، على درجة الاهتمام الأميركي بالنزاع مع روسيا والصين حول أوكرانيا وتايوان، وربما تعرف روسيا بالأرقام حجم الفوائد التي حققتها من شحّ تدفق الذخائر النوعية على أوكرانيا نظراً لحاجة كيان الاحتلال اليها، وعجز الغرب كله عن تلبية الحاجتين معاً.
– عندما يذهب الأميركيون الى مجلس الأمن لطرح قضية البحر الأحمر، فذلك ليس إيماناً بالمؤسسات الدولية والقانون الدولية والقرارات الدولية، بل لأنهم فشلوا وحدهم في البداية، ثم فشلوا في ضمّ دول عربية وإسلامية إلى حلفهم البحري ضد أنصار الله، ويريدون تعويض الفشل باللجوء إلى مجلس الأمن الدولي، تحت شعار أن ما يجري تهديد للملاحة الدولية. وهذا يعني اللجوء للصين وروسيا لمشاركة واشنطن موقفها العدائي من أنصار الله وتقديم الغطاء القانوني للعدوان عليهم. وهنا من المهم لفت الانتباه إلى أن موقف أنصار الله لن يتأثر بما قد يصدر عن مجلس الأمن الدولي بحقهم، وقد صدرت قرارات عدائيّة ضدهم سابقاً بمشاركة روسية صينية. والمطلوب من موسكو وبكين ليس فقط الانحياز الى الخيار الأخلاقي والمبدئي الذي يعرفونه جيداً عن مدى اهتمام أميركا بالقانون الدولي والملاحة الدولية، وعن الخلفية الأخلاقية لموقف أنصار الله بالضغط لوقف العدوان على غزة بعد فشل كل المؤسسات الدولية بوقف ما تصفه بكين وموسكو بالمذبحة بحق الإنسانية، وليس مطلوباً إلا أن تتمسك موسكو وبكين بما قاله المندوب الروسي في اجتماع تشاوري الأسبوع الماضي في مجلس الأمن حول البحر الأحمر، حيث حثّ مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا قادة أنصار الله على الحدّ من الإجراءات التي تشكل تهديداً للسفن التجارية وطواقمها. لكنه قال «إن أصل القضية هو أنها امتداد للصراع بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في قطاع غزة، وانتقد واشنطن لعرقلتها قرارات تدعو إلى وقف إطلاق النار».