مئة يوم على العدوان: هل اقتربت لحظة إجبار حكومة نتنياهو على تجرّع كأس الهزيمة؟
حسن حردان
مئة يوم مضت على العدوان الصهيوني على قطاع غزة، لم ينجح فيها جيش الاحتلال سوى في قتل وجرح عشرات آلاف المدنيين من أطفال ونساء ورجال وشيوخ، وتدمير المنازل والمستشفيات والمدارس والبنى التحتية في مشهد دلل على مدى حرب الإبادة النازية التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني، والتي مهّدت لها تصريحات المسؤولين الصهاينة الذين توعّدوا بحرق ومحو غزة ووصفوا الفلسطينيين فيها بأنهم «حيوانات بشرية» حسب ادّعاء وزير الحرب يوآف غالانت، فيما أعلن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو انه سيحوّل غزة إلى خرابة، ودعا وزير التراث الصهيوني عميحاي الياهو إلى إلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة.. الأمر الذي شكل دليلاً على النية في ارتكاب جريمة حرب الإبادة، والتي دعمتها ارتكابات جيش الاحتلال في الميدان، وهو ما اعتبر قرائن وبراهين استندت إليها دولة جنوب أفريقيا في الدعوة التي تقدّمت بها أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، وأبدع قانونيوها في مرافعاتهم أمامها لإدانة كيان الاحتلال الاسرائيلي بجرم ارتكاب حرب الإبادة.. وهو طبعاً ما آثار غضب المسؤولين الصهاينة، الذين لم يتوقعوا ان تستخدم تصريحاتهم النازية دليلاً دامغاً لجلب كيانهم الى المحاكمة في لاهاي، مما دفعهم إلى الخروج عن طورهم ومهاجمة جنوب أفريقيا والمحكمة وإعلان رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو بأن «لا لاهاي ولا محور (المقاومة)، يستطيعون إجبار إسرائيل على وقف حربها حتى تحقيق النصر».
اما الأهداف التي أعلنت حكومة الحرب الصهيونية انها تريد تحقيقها، من وراء شنّ حربها على غزة، فلم تتمكن من تحقيق أيّ هدف منها على الإطلاق، على الرغم من أنها زجّت بكامل قوتها العسكرية ووحدات النخبة في جيشها وقصف قطاع غزة بأكثر من مئة ألف طن من المتفجرات:
أولاً، هدف القضاء على المقاومة وتدمير قدراتها وفي الطليعة حركة حماس، فإنّ كلّ الوقائع تؤكد فشل جيش الاحتلال في تحقيقه، فبعد مئة يوم لا تزال المقاومة الضارية مستمرة من شمال قطاع غزة، الذي زعم العدو بأنه قضى على قدرات المقاومة فيه، وسحب ألويته منه، إلى الوسط والجنوب حيث يتعرّض جيش الاحتلال لخسائر كبيرة بفعل هجمات المقاومة وتكتيكاتها في شنّ حرب الاستنزاف، تماماً كما فعلت وتستمر في تنفيذ هذه الهجمات والتكتيكات في الشمال، والتي برهنت على استمرار المقاومة ونجاحها في إغراق جيش الاحتلال في فخاخ كمائنها وعبواتها الناسفة وصواريخها المضادة الدروع، مما منع جيش الاحتلال من النجاح في فرض سيطرته على المناطق التي توغل فيها في الشمال والوسط والجنوب، او الاستقرار فيها، وثبت انّ المقاومة لا تزال تتحكم بإدارة المعركة وانّ منظومة القيادة والتحكم لديها لم تتأثر، وهي تدير المواجهة وحرب الاستنزاف بقدرة وحنكة وذكاء وكفاءة عالية فاجأت قيادة العدو وقواته، وصدمتهم، وأربكتهم.. فيما برهن المقاومون على مهاراتهم القتالية والاشتباك مع قوات الاحتلال من مسافة صفر.
ثانياً، هدف وقف إطلاق الصواريخ على مستوطنات ومدن الاحتلال في جنوب فلسطين المحتلة والعمق الصهيوني لتوفير الأمن للمستوطنين وتمكينهم من العودة إلى مستوطناتهم التي نزحوا عنها في الجنوب، والحيلولة دون تزايد الهجرة المعاكسة، فإنه أيضاً فشل فشلاً ذريعاً، حيث استمرت المقاومة في قصف هذه المستوطنات وتل أبيب والمدن المحيطة بها، في التوقيت الذي تحدده.. على ان المقاومة وجهت صفعة قوية لجيش الاحتلال وكشفت كذب مزاعمه عندما أقدمت، بعد مئة يوم على العدوان، ومرور ساعات على إعلان الناطق العسكري الصهيوني، أنه دمّر 700 منصة إطلاق صواريخ للمقاومة، على قصف مستوطنات ومدن الاحتلال في جنوب فلسطين المحتلة وجنوب تل أبيب بدفعة من صواريخها انطلاقاً من شمال قطاع غزة ومن مناطق يتواجد فيها جيش الاحتلال، الذي ادّعى انه أنجز أهدافه العسكرية فيها وسيطر عليها، ويقوم بعمليات تطهير وتمشيط في بعض مناطق الشمال.. فيما أعلنت وسائل الإعلام الإسرائيلية انّ حركتي حماس والجهاد الإسلامي عادتا إلى الظهور العلني في المناطق التي انسحب منها الجيش الإسرائيلي، وهذا دليل جديد على انّ إعادة انتشار قوات الاحتلال وسحب القسم الأكبر من قواتها من شمال غزة إلى محيط غزة إنما يندرج في سياق الخروج من المستنقع الذي وقعت فيها نتيجة ضربات المقاومة المستمرة.. وانّ جيش الاحتلال فشل وأخفق في القضاء على المقاومة او إضعاف قدراتها.
ثالثاً، هدف تحرير الأسرى الصهاينة بالقوة من دون شروط، أيضاً فشل فشلاً مدوياً، حيث لم يتمكن جيش الاحتلال في تحرير ايّ أسير، وعندما حاول الوصول إلى مكان تواجد بعض الأسرى متخفياً بسيارة الصليب الأحمر، قتل وجرح جنوده، وفرت بقية القوة الخاصة من المكان…
في مقابل هذا الفشل في تحقيق الأهداف، فقد أدّت الحرب إلى:
ـ إلحاق خسائر كبيرة غير مسبوقة الكيان، بالأرواح والعتاد العسكري والاقتصاد. فاقمت منها حرب الاستنزاف التي تشنها قوى المقاومة ضدّ الاحتلال الصهيوني من لبنان والعراق وسورية واليمن، دعماً ومساندة للشعب الفلسطيني ومقاومته ولإجبار حكومة العدو على وقف عدوانها على قطاع غزة، بما يحقق شروط المقاومة وخروجها منتصرة من هذه الحرب.
ـ فرض عزلة دولية على «إسرائيل» وسط تنديد غير مسبوق من قبل الرأي العام العالمي للجرائم الصهيونية والتي عبّرت عنها التظاهرات المستمرة في مدن العالم ولا سيما في الدول الغربية، والتصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومحاكمة «إسرائيل» في لاهاي بتهمة الإبادة الجماعية.
ـ عودة المقاطعة العالمية بقوة للمنتجات الإسرائيلية والشركات الدولية التي تدعم «إسرائيل».
ـ أما القضية الفلسطينية التي سعى الكيان إلى طمسها، فإنها عادت إلى الواجهة بقوة وسط ارتفاع منسوب الدعم للشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية في العالم أجمع، على نحو لم يعرفه من قبل.
على ان هذه النتائج المخيّبة لآمال حكومة نتنياهو، بدأت تنعكس بتداعيات سلبية على الداخل الإسرائيلي بالتطورات التالية:
ـ سيادة حالة إحباط لدى الرأي العام الإسرائيلي نتيجة الفشل في تحقيق أهداف الحرب..
ـ اتساع حجم المشاركة في التظاهرات، والذي تجلى بتظاهرات كبرى في تل أبيب وحيفا والقدس قدرت أعداد المشاركين فيها بـ 300 ألف، وهي الأكبر منذ بدء العدوان على غزة، بما يؤشر إلى تحوّل متصاعد في موقف الإسرائيليين من دعم الحكومة في شنّ الحرب إلى الضغط عليها لوقفها لصالح العمل على الإفراج فوراً عن الأسرى عبر التفاوض مع حركة حماس، كما طالبت التظاهرة باستقالة الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة، فيما نفذت نقابات العمال إضراباً تضامناً مع عائلات الأسرى، لمدة 100 دقيقة…
ـ تفجر الخلافات بين أطراف حكومة الحرب، بين نتنياهو وغالانت، وبين نتنياهو وبني غانتس، الذي شارك في تظاهرة تل أبيب على نحو أشر إلى مغازلته المتظاهرين ودعمه لمطلبهم بإعطاء الأولوية لإطلاق الأسرى، لكسب تأييدهم في الانتخابات المقبلة، الأمر الذي يوسع خلافه مع نتنياهو.. فيما الوزير غادي ايزنكوت خاطب نتنياهو بالقول له: «كفانا الكذب على أنفسنا يجب العمل على استعادة الأسرى»، أما زعيم حزب إسرائيل بيتنا افيغدور ليبرمان فقد انضمّ الى المطالبين باستقالة الحكومة، وتشكيل حكومة جديدة.. فيما نائب رئيس الأركان يائير غولان قال: «انه لا يمكن تحقيق أهداف الحكومة بتدمير حماس والإفراج عن الرهائن أيضاً، انهما هدفان لا يمكن أن يتحققا معاً»، في حين دعا الجنرال السابق المعروف بتأثير مواقفه في الكيان، إلى الانسحاب فورا من قطاع غزة بما في ذلك من خان يونس…
هذه التطورات والمواقف تزيد من مأزق نتنياهو وتضعف موقفه الداعي إلى مواصلة الحرب حتى النهاية وعدم الاستجابة لمطالب عائلات الأسرى، لأنها تعني بالنسبة له الرضوخ لمطالب المقاومة بوقف الحرب والانسحاب من القطاع وفك الحصار عنه، قبل أيّ تفاوض على صفقة تبادل للأسرى، مما سيشكل هزيمة مدوية لـ «إسرائيل»، ويؤدّي إلى تسريع محاسبة نتنياهو ومحاكمته بالمسؤولية عن الفشل الاستراتيجي في 7 أكتوبر، والنتائج الكارثية التي أدّى إليها فشل الحرب في غزة في تحقيق الأهداف.. على انّ هذه التداعيات تؤشر إلى أنّ المناخ العام في الكيان بدأ يتجه للاقتراب من لحظة إجبار حكومة نتنياهو على تجرّع الكأس المرة بوقف الحرب وسلوك مسار التفاوض لتبادل الأسرى، وبالتالي البحث عن مبرّرات ومخارج للإقرار بالهزيمة أمام المقاومة.. وقد يكون المخرج لنتنياهو ما كشفه الكاتب في صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية ناحوم برنياع، في مقال له تحت عنوان «التعايش مع الخسارة»، عن وجود مخطط لوقف النار في غزة لمدة ثلاثة أشهر يتضمّن تحرير الأسرى الأحياء والأموات على مراحل، وتقبّل الجيش الإسرائيلي للنتائج المحدودة للحرب…