«إسرائيل» قامت على الخداع والعنف…
القنصل خالد الداعوق*
من مباحثات السلام التي عُقدت في مطلع العام 1919 على اثر انتهاء الحرب العالمية الأولى في تشرين الثاني/ نوفمبر 1918 بدأت لجان مؤلفة من رؤساء الدول الكبرى التي ربحت الحرب، ايّ الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها من الدول التي شاركت في الحرب متحالفة معهم، بدأت تعقد اجتماعات ومنها للبحث في ما يتعلق بتركة الدولة العثمانية وكيفية تجزئتها وتقاسمها، حيث كان البريطانيون والفرنسيون أعدّوا سابقاً اتفاقية سايكس ـ بيكو ومعهم روسيا في العام 1915، إنما بعد الثورة البلشيفية عام 1917 انسحبت روسيا من الحرب، وكذلك انسحبت من اتفاقية سايكس ـ بيكو، التي كانت تقسّم تركة الدولة العثمانية، وقد تغيّرت الاتفاقية عدة مرات بين بريطانيا وفرنسا، حيث أعطت الاتفاقية الموصل إلى فرنسا، لكن بعد ذلك جرى تعديل هذا الأمر، فصار لبنان وسورية من حصة فرنسا، والموصل وكلّ العراق من حصة بريطانيا، فيما بقي الخلاف مستحكماً بين الفرنسيين والبريطانيين بشأن أيّ منهما سيكون صاحب سلطة الانتداب على فلسطين، إذ أراد البريطانيون أن تكون فلسطين تحت سيطرتهم أو انتدابهم بينما تحفظ الفرنسيون على ذلك لفترة.
وكان الاتفاق العام بين الدول الحليفة المنتصرة في الحرب أنه يجب تقسيم الدولة العثمانية، وقد حدّدت مسودة كتاب من اللجنة العشرية المجتمعة في 30 كانون الثاني 1919 على أن تسلخ نهائياً أرمينيا وسورية وأرض ما بين النهرين وفلسطين والمنطقة العربية عن الأمبراطورية العثمانية، لكن كان هناك خلاف بين الحلفاء المنتصرين في الحرب على موضوع الانتداب، حيث كان هناك ثلاثة أنواع من الانتدابات كلّ حسب موقع المنطقة التي يقع فيها البلد المُراد إخضاعه لسلطة الانتداب.
فقد كانت المنطقة الواقعة جنوب غرب أفريقيا وبعض مناطق جزر المحيط الهادئ لها نظام انتداب، فيما خضعت المنطقة التي كانت تحت السيطرة العثمانية لنظام انتداب آخر، حيث أعطيت لهم استقلالية لكن مشروطة بالدولة المنتدِبة إلى حين يصبح ممكناً إعطاؤهم الاستقلال التام (1).
وقد أصبحت هذه المسودة التي طلبها الجنرالSMUTS من أفريقيا الجنوبية ووافق عليها الرئيس ولسون وأصبحت هذه الوثيقة الفقرة 22 من ميقاق عصبة الأمم.
بالنسبة إلى تقسيم تركيا قدّم الأمير فيصل ابن الشريف حسين شريف الحجاز التماساً في 1 كانون الثاني ثم في 29 كانون الثاني يحدّد بموجبه وجهة نظر العرب بالنسبة إلى الاستقلال وبالنسبة إلى الأراضي التي يريدها.
سأله الرئيس ولسون بضعة أسئلة بشأن الأراضي والانتداب فأجابه الأمير فيصل بأنه يريد “استقلال شعبه الذي له الحق في اختيار الدولة المنتدبة عليه”.
في 13 شباط 1919 حضر الاجتماع أمام هذه اللجنة الأستاذ هوارد بلس رئيس الكلية السورية البروتستنتية في بيروت، حيث ساند مطالب الأمير فيصل لاستقلال العرب، وطالب أن تكون هناك بعثة مشتركة من دول الحلف لزيارة سورية الكبرى ولأخذ رأي الشعب هناك.
كما استمعت اللجنة إلى آراء أعضاء الوفد السوري الذين طالبوا بأن تكون فرنسا هي الدولة المنتدبة، ولم يتأثر الوفد الأميركي بآراء هذا الوفد.
لقد ترك الأمير فيصل انطباعاً حسناً لدى الوفد الأميركي، كذلك فعل هوارد بلس.
وفي 27 شباط اجتمعت اللجنة وتغيّب عنها الرئيس ولسون الذي سافر إلى الولايات المتحدة لفترة شهر، ولكن حضر هذا الاجتماع لويد جورج، كليمنصو، روبرت لانسينغ (lansing) وزير خارجية الولايات المتحدة، هنري وايت، ومندوب عن إيطاليا بالإضافة إلى مندوبي بعض الدول الأخرى المتحالفة معهم.
كان هذا الاجتماع مخصّصاً للاستماع إلى التماس الصهاينة وممثلهم حاييم وايزمن وناحوم سوكولوف ومناحيم أوزنيسكين.
تكلم أولاً عن الصهاينة ناحوم سوكولوف عن حقوق اليهود في فلسطين عبر التاريخ، ومطالباً بأن تكون فلسطين من نهر الليطاني شمالاً إلى سيناء جنوباً وشرق نهر الأردن شرقاً، أيّ أن تكون ضفتا نهر الأردن ضمن فلسطين، كذلك نهر الليطاني شمالاً وشرقاً إلى حدود سكة حديد الحجاز في معان، وطبعاً بما فيها جبل الشيخ ونهرا الوزاني والحاصباني، وعلى أن تكون بريطانيا هي الدولة المنتدبة على فلسطين.
ثم تكلم وايزمن عن الهجرة الصهيونية، مشيراً إلى أنّ الحلّ الصهيوني هو الأنسب والوحيد الذي على المدى البعيد سيجلب السلام، وفي الوقت نفسه سوف يحوّل القدرة اليهودية إلى قدرة بنّاءة بدلاً من أن تكون هدامة.
وأعطى وايزمن الانطباع خاصة لدى الأميركيين أنّ الصهاينة يريدون وطناً قومياً لليهود من دون أن يكون هذا الوطن سياسياً أو له استقلال سياسي أو حكومة سياسية.
كذلك تكلم العضو الثالث في الوفد الصهيوني مناحيم أوزنيسكين الذي تحدث بالعبرية حيث تعجّب الرؤساء والمندوبون الحاضرون بمن فيهم مندوبا الولايات المتحدة لانسينغ ووايت، فقال لهم أوزنيسكين إنه يتكلم العبرية وهي لغة الأنبياء والنبلاء، وأنهم (أيّ اليهود) حفظوها لآلاف السنين.
بالمختصر، لقد كان الكلام الصهيوني عبارة عن تمثيلية للإيحاء بأنهم أيّ الشعب اليهودي لا يريدون سوى السلام ومأوى لهم في أرض أجدادهم فلسطين، ولا يريدون أن تكون دولة سياسية إنما مكان آمن لهم، وهم سوف يطوّرون اقتصاد فلسطين وخاصة الزراعة فيها وهم لديهم المعرفة والقدرة اليدوية والقدرة التمويلية لفعل ذلك.
هذا ما كان يتوافق مع سياسة الرئيس ولسون وسياسة الولايات المتحدة الأميركية بأن يكون لليهود ملجأ غير سياسي في فلسطين.
وبعد كلام الصهاينة تكلم نيابة عن الوفد الفرنسي البروفيسور اليهودي سيلفان ليفي الذي كان رئيس الأليانس الإسرائيلي العالمي، وهذا الأليانس له مدارس عدة في العالم من المغرب إلى فيتنام وفرنسا، وأيضاً في لبنان حيث كانت توجد مدرسة الأليانس للطائفة اليهودية في وادي ابو جميل، وكانت تقدّم مساعدات للطلبة المحتاجين.
لكن سيلفان ليفي لم يكن صهيونياً، كان يهودياً وله مقامه في الطائفة اليهودية في العالم، وقد انتدبه الفرنسيون ليتكلم أمام هذه اللجنة التي كانت تستمع إلى مطالب الصهاينة.
قال ليفي إنّ اليهود الصهاينة سوف ينتزعون أملاك العرب في فلسطين. وإنّ أغلبية اليهود الصهاينة المزمع هجرتهم إلى فلسطين هم من الروس العنيفين والمشاغبين، وحذر من أنّ إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين سوف يخلق مشكلة لليهود في العالم لجهة ولائهم المزدوج للبلدان التي هم فيها وللبلد الذي يريدون إنشاءه في فلسطين.
فوجئ وايزمن بما قاله ليفي وأبدى انزعاجاً شديداً منه، وفي هذه المناسبة وجه المندوب الأميركي لانسينغ سؤالاً لوايزمن عما إذا كان ما قاله عن إنشاء وطن قومي لليهود يعني إنشاء حكومة يهودية مستقلة؟
هنا أذكر أنّ مطالب الصهاينة هي أن يكون لهم وطن قومي يهودي، يعني ملجأ لهم في فلسطين، وكما ذكرت آنفاً يتناسب هذا الكيان أيضاً مع سياسة الولايات المتحدة الأميركية وأن لا يكون لهم حكومة مستقلة.
أجاب وايزمن نافياً أنّ يكون مطلبهم هو إنشاء حكومة سياسية أو وطن أو كيان مستقلّ، وقال إنّ ما يريده الصهاينة هو إدارة مدنية تكون مسؤولة عن سبعين إلى ثمانين يهودي سوف يدخلون إلى فلسطين سنوياً ويكون لهم حق في إنشاء قومية يهودية تدريجياً.
لقد اعتبر وايزمن انّ سؤال المندوب الأميركي له كان أعجوبة أنقذته بعدما تكلم سيلفان ليفي وحذر من نوايا الصهاينة، فسؤال لانسينغ فتح المجال لوايزمن مرة ثانية ليواصل عملية الخداع بأنهم لا يريدون حكومة سياسية مستقلة.
1 ـ u.s department of state, 1919 the paris peace conference (1943),III, 795
2 ـ lansing Robert, the big four and others of the peace conference (boston, Houghtan Miften 1921)
3 ـ راجع رسالة ماجيستير أرثور هيوتن “الرئيس ولسون وفلسطين ـ دراسة في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط 1914 ـ 1920” المقدمة إلى الجامعة الأميركية في بيروت عام 1966.