لماذا تدعو أميركا الى عدم توسيع الحرب؟
العميد د. أمين محمد حطيط*
صدم الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية بالزلزال الذي ضرب قاعدته البرية المسمّاة «إسرائيل»، الزلزال الذي أحدثته المقاومة الفلسطينية يوم 7 أكتوبر 2023 انطلاقاً من غزة وتحشّد جمع الغرب لـ «الإجهاز على هذه المقاومة» واقتلاع البيئة الحاضنة لها وشطب قطاع غزة من الوجود بتدميره وإحراقه ومحوه من خريطة العالم كلياً، ومن أجل ذلك استبيحت القوانين والمبادئ الأخلاقية والإنسانية وأعطت «إسرائيل» لنفسها الحق بفعل كلّ شيء، أيّ شيء، لتنفيذ ما ذكر مستفيدة من دعم غربي لا محدود، وأعلنت الحرب على غزة وأهلها وحدّدت أهمّ أهداف تلك الحرب بتدمير المقاومة وتغيير ديمغرافية القطاع بتهجير معظم سكانه إلى مصر، ولم يكن موضوع الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية مهماً لدى نتنياهو مع أنه حدّده واحداً من أهداف الحرب التي أعلنها على القطاع ومن فيه.
لقد كانت «إسرائيل» وبعد الإعلان الغربي عن دعمها بشكل غير محدود، مطمئنة إلى نتائج حربها وراحت مع أميركا تفكر بمستقبل القطاع بعد الحرب ضمن مقولة «اليوم التالي» وتتصرّف بثقة مطلقة بأنّ أحداً لن يقف في وجهها ويمنعها من تحقيق أهدافها. أما أميركا التي فتحت مخازن أسلحتها وخزائن أموالها لتغدق منها على «إسرائيل»، فقد أرسلت وزير خارجيتها اليهودي الى المنطقة ليروّج لفكرة تهجير الفلسطينيين من غزة واعتماد نظام حكم فيها يناسب «إسرائيل» بعيداً عن المقاومة، وذهبت أميركا أبعد من ذلك عندما أشارت على نتنياهو بأن يركز جهده في قطاع غزة لمحاربة المقاومة الفلسطينية وتتولى هي شأن كلّ عدو يظهر ويحاول عرقلة العمل «الإسرائيلي».
لكن الحسابات الأميركية لم تكن متوافقة مع قرارات المقاومات او مكونات محور المقاومة في المنطقة، حيث انّ هذه المكونات هبّت لإسناد المقاومة الفلسطينية كلّ وفقاً لموقعها وجغرافيتها وقدراتها، ففتحت جبهات ثلاث بدءاً بالجبهة مع لبنان وجبهة اليمن وجبهة العراق وسورية، وحدّدت لكلّ جبهة وظيفة ومهمة تضطلع بها كالتالي:
ـ جبهة لبنان تولت مهام الضغط العملاني والسكاني وإحداث الاضطراب في شمال فلسطين المحتلة مع التهديد بالتصعيد المتتابع من أجل الضغط على العدو لوقف عدوانه على غزة، عبر إلزامه بتخصيص أكثر من ثلث قواته القتالية لهذه الجبهة ما يخفّف من الضغط على المقاومة في غزة.
ـ جبهة اليمن، تولت العمل على خطين خط اقتصادي عبر إقفال باب المندب والبحر الأحمر بوجه السفن المتّجهة من الموانئ الإسرائيلية وإليها، وخط أمني ميداني عبر استهداف مدينة إيلات (أم الرشراش المحتلة) بالقصف الصاروخي والطائرات المُسيّرة.
ـ جبهة العراق، تولت الضغط على أميركا و»إسرائيل» معاً، حيث استهدفت بنيران صواريخها والطائرات المُسيّرة المسلحة القواعد الأميركية في سورية والعراق، كما قصفت أهدافاً في عمق الكيان الصهيوني.
مشهد تشكّلَ من جبهات مساندة ثلاث ورسم مسرح عمليات للمقاومة المتساندة وشتت جهد “إسرائيل” التي غرقت في الجبهة الرئيسية في غزة، حيث أذهلتها بطولات المقاومين الفلسطينيين فيها ما منعها من تحقيق أيّ من أهداف العدوان وقد وجدت “إسرائيل” نفسها مضطرة للقتال على أكثر من جبهة خلافاً لعقيدتها القتالية القائمة على الاستفراد بالعمل على جبهة واحدة وتثبيت باقي الجبهات ريثما تنجز المهمة على الجبهة التي تشاغلها، ما تسبّب بقلق لها ولأميركا التي رفعت شعار “عدم توسيع الحرب” وهو شعار يعتبر الترجمة الفعلية للعقيدة القتالية الإسرائيلية القائمة على الاستفراد.
لم تكترث مكونات محور المقاومة العاملة على الجبهات المساندة الثلاث للدعوة الأميركية المسمومة، وكان الردّ مختصراً “أوقفوا العدوان على غزة تتوقف العمليات على الجبهات المساندة” دعوة ما كانت لتصدر لو لم يتبيّن الأثر الفعّال لهذه الجبهات ومفاعليها على العدو الإسرائيلي وعدوانه على غزة.
وبعد الردّ السلبي انتقلت أميركا الى سياسة الترغيب والترهيب وفتح ملفات خاصة بكلّ جبهة علها تغري أصحابها بالخروج من الصراع وفشل المسعى أيضاً، فهدّدت بالحرب وبالفعل استهدفت القوات المقاومة العراقية، ثم شنّت عدواناً جوياً على اليمن ووجهت تهديداً للمقاومة الإسلامية في لبنان بأنها ستواجه الحرب الشاملة إنْ لم تقفل الجبهة.
والغريب المستهجن انّ أميركا التي تدعو علانية إلى حصر النزاع وعدم توسيع الحرب وإبقائها في غزة فقط، هي نفسها التي تمنع وقف إطلاق النار وتغدق على “إسرائيل” السلاح والذخيرة الفتاكة المدمّرة والأموال الطائلة، ثم هي نفسها من قصف المقاومة العراقية والقوات المسلحة اليمنية كلّ ذلك خدمة لـ “إسرائيل” ثم تهدّد لبنان بالحرب الشاملة.
بيد أنّ المقاومة على الجبهات الثلاث اتخذت موقفاً نهائياً من الدعوة/ الطلب الأميركي يؤكد على الربط بين الجبهات الأربع فإما يتمّ وقف إطلاق النار عليها معاً او يستمرّ العمل والمواجهة عليها معاً أيضاً، وان زمن الاستفراد والعمل بالعقيدة القتالية الإسرائيلية لتمكين “إسرائيل” من بلوغ أهدافها من الحرب فإنه زمن ولّى وبات في الساح مسرح عمليات مقاومة واحد متماسك تعمل المقاومات فيه معاً بشكل منسّق ومتبادل الدعم والإسناد.
أما التهديد بالحرب الشاملة فهو برأينا تهديد أجوف فارغ المضمون، لأنّ أيّ حرب ستشنها “إسرائيل” بقواتها المرهقة والمنحطة المعنويات والفاقدة لإرادة القتال لن تكون إلا حرباً تجلب لـ “إسرائيل” مزيداً من الخسائر ذات البعد الاستراتيجي. أما أميركا فإنها إذا اختارت الدخول في الحرب فعليها أن تعلم أنها ستخوض حرباً من الجيل الرابع، وهي حرب تعرف أميركا أنها لن تربح فيها او في أيّ منها من فيتنام الى أفغانستان الى العراق، أما هزيمتها هذه المرة فإنها ستخرجها من الشرق الأوسط برمّته مع ما في هذا الخروج من تأثير على موقع أميركا الاستراتيجي العالمي.
إنّ دعوة أميركا الى عدم توسيع الحرب وإقفال الجبهات المساندة هي دعوة مسمومة توجّهها خدمة لـ “إسرائيل”، ولذلك لن يُستجاب لها لا بل جهّزت المقاومة جبهاتها المساندة لمزيد من العمليات على حدّ قول أبو عبيدة الناطق باسم حماس الذي ذكر بالأمس أنّ “جبهات المقاومة أبلغتنا بأنها ستزيد من عملياتها في الأيام المقبلة”. أما التهديد بالحرب الشاملة او الحرب الإقليمية الواسعة فلن يخيف جبهة المقاومة ولن يقفل الجبهات المفتوحة لا بل ينتظره محور المقاومة على حدّ ما ذكر السيد حسن نصرالله بالأمس “أهلا ومرحبا” بالحرب إذا شاؤوها. وحده وقف العدوان على غزة هو المدخل الى الحلّ فهل يقتنع الأميركي بهذا ويأمر “إسرائيل” بوقف العدوان؟ لننتظر وسنرى أن ليس أمام أميركا حل مضمون غير هذا حيث ستفرض المصالح الشخصية لبايدن والوطنية لأميركا قريباً العمل بهذا الحلّ ووقف العدوان وتجرّع “إسرائيل” الهزيمة المضاعفة التي لا بدّ من القبول بها رغم المكابرة.
*أستاذ جامعي ـ خبير استراتيجي