ماذا بين فوكوياما وطوفان الأقصى والتاريخ؟
نوال عباسي ـ تونس
منذ أن طرح فوكوياما المُنظّر والفيلسوف الأميركي نظرية نهاية التاريخ في كتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» بقيَ الغرب المتورّم حضارياً يعاني في تعامله معنا نحن شعوب هذا الشرق بـ «انحياز تأكيدي» والذي هو عبارة عن عملية خداع للوعي الجمعي بواسطة مغالطات «منطقية» يتمّ تأويلها بطريقة تؤكد معتقداته وأمانيه في تجاهل تامّ للحقائق والوقائع والأدلّة التي تفنّد هذه المعتقدات، وأدّى به الإمعان في البحث عن المؤيدات الملائمة لتعزيز هذا الانحياز المرضي إلى اتخاذ قرارات وإصدار أحكام منحرفة ومشوّهة.
جعلته هذه الحالة المرضية يعتقد أنه يتمتع بمرونة استراتيجية تمكنه من «مناهضة الحلول» واحتواء الصراع وتجنّب المخاطر عبر ما يظنّ أنها تسويات مؤقتة ومتجدّدة مع محور المقاومة ضمن فيها الغرب والصهيوني بصفته الوكيل الحصري له مستوى منخفض من العنف الذي يمكن التعايش معه.
في الجهة المقابلة أرسى محور المقاومة عبر صموده ومراكمته للانتصارات خطوة بخطوة ودون مجازفة، منذ معركة تحرير لبنان وصولاً الى إسقاط مشروع «ربيع» برنارد هنري ليفي، معادلة ردع أوصلت المنطقة إلى حالة ستاتيكو براغماتي اضطر فيه إلى ممارسة السياسة في عالم يلتبس فيه الحق بالباطل وبقيَ يراوح بين تسخين جبهة وتبريد أخرى حتى وصل إلى طريق مسدود ووضع لم تعد تنفع فيه تسويات.
وبما انّ الحرب استمرار للسياسة وممارسة سياسية بامتياز كما يقول كلاوزفيتز فقد جاء العقل الاستراتيجي الفذ الذي فكّر وقدّر أنه لم يعد بالإمكان تأجيل الخيارات الصعبة وأطلق طوفان الأقصى، فبورك كيف فكّر وبورك كيف قدّر.
طوفان الأقصى ليس فقط فضح حالة التحيّز الإدراكي للغرب، بل وجعله في مساءلة تاريخية أمام شعوبه التي أفاقت على زيف سردياته وخواء شعاراته.
ويبدو أنّ مرضه العضال يحول دون استيعابه دروس التاريخ والجغرافيا وعلم النفس، حيث أنه ما زال في ردود فعله الانفعالية بين مقامر ومغامر.
الميدان، وعيننا عليه كما دعانا سماحة السيد الحسن، يشهد معارك ساخنة على كلّ الجبهات تدار بعقل بارد، بدأت وتيرتها في الارتفاع التدريجي لتنتقل من جبهات إسناد إلى جبهات تحرير وطني ثم الى منصات لإرسال رسائل ردع، وقد تتطوّر الى أكثر من ذلك، سيولة تكتيكية لمحور القدس مقابل جمود استراتيجي لعدو غافل عالق في وحل غزة وغارق في البحر الأحمر فضلاً عن الانقسام الداخلي الذي سوف يعصف بحكومة النتن ياهو الذي أصبحت أيامه معدودة.
هزائم متتالية وبنك أهداف لم يتحقق ايّ منها المعلنة أو المخفية وكلّ الحصيلة ألقاب عالمية مخزية أوصلته إلى عتبة لاهاي.
في المحصّلة خط بياني هابط لقوة ردع العدو مقابل خط بياني صاعد لقوة ردع محور المقاومة في معركة يبدو أنها صفريّة ويبدو أنها قابلة للتمدّد جغرافياً وزمنياً، وليس علينا بأيّ حال من الأحوال استعجال نهايتها حتى ولو كان ذلك بدافع إنساني.
الحماقات التي ترتكبها الطغمة المتحكّمة في مصير العالم والمتعنّتة تثبت يوماً بعد يوم أنّ هذه المعركة ليست معركة غزة وحدها بل معركتنا كلنا ضدّ هيمنة وتوحش الغرب الكافر بالإنسانية وضدّ الكثيرين من هواة التقليد والاستصنام الذين كانوا (وما زالوا stand by) يرقصون بين حوار حضارات وقيَم كونية وعولمة وديانات ابراهيمية.
التضحيات التي تمّ تقديمها والدماء التي أريقت والشهداء الذين عرجوا إلى السماء والنصر المعنوي الذي حققته الفصائل الفلسطينية بصمودها واستبسالها لا يليق بها إلا النصر، والنصر يتطلب مزيداً من الصبر رغم المخاض العسير والمؤلم والدامي.
نرى بأنه اليوم بدأت ديناميكية محور المقاومة وقدرته على الضغط تتنامى وهذا يعزز فرص استثماره سياسياً لاحقاً فليس المطلوب منه إغماد سيفه الآن بل عليه أن يكمل وعلينا نحن، المطمئنون الى ثبات المقاومة، ان ننصرف إلى التمهيد إلى المشروع الذي نراه ونريده نموذجاً وبديلاً عن النموذج الغربي المفروض علينا لأنّ المعركة التي انطلقت شرارتها من غزة هي بالأساس معركة ثقافية وحضارية وفكرية.
الله لا يعطي النصر الا بعد امتحانات وابتلاءات وصعوبات ليسقط من يسقط وتتمايز الصفوف، الله لا يعطي النصر لخليط، الله يعطي النصر للانقياء والأوفياء والأقوياء هكذا تكلّم سيد الوعد الصادق.
وما دواء الانحياز التأكيدي إلا بالصبر الاستراتيجي.