خلفيات الهدنة ـ الخدعة الإسرائيلية ومصيرها… وماذا عن الحرب؟
العميد د. أمين محمد حطيط*
بعد نيّف و15 أسبوعاً أظهر العدو الإسرائيلي انه ضاق ذرعاً بجبهة الجنوب اللبناني التي اتخذها حزب الله أداة ضغط عليه من أجل أن يوقف عدوانه على غزة ويخفف الضغط على المقاومة الفلسطينية في القطاع، وقد تعامل العدو وحلفاؤه منذ أن افتتحت تلك الجبهة في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 بأساليب عدة، ممنياً النفس بإقفالها او تحويلها الى عمليات استعراضية لا تؤذي العدو بأيّ شكل من الأشكال.
في البدء كان ردّ الفعل الأول من العدو وتابعيه وحلفائه، وحتى في داخل لبنان، نوعاً من التهكم والاستخفاف بالجبهة تلك من أجل إحباط المقاومة وحملها على وقف عملياتها الضاغطة على العدو، ولما لم ينفع السلوك انتقل العدو الى الخروج عن قواعد الضبط التي اعتمدها حزب الله في المكان والهدف. وكان ردّ المقاومة التمسك بتطبيق قاعدة التماثل ما جعل العدو يفشل في خطته تلك وينتقل الى استعمال الوسطاء مترافقاً مع التهديد بالحرب ممنياً النفس بوقف العمليات تلك، واستعمل في ذلك الأميركي والأوروبي والعربي الذين تقاطروا الى لبنان يبدون «الحرص عليه»، مطالبين بإقفال جبهة الجنوب، وكان ردّ حزب الله واحداً في كلّ المواقف ويختصر بالقول «أوقفوا الحرب على غزة تتوقف العمليات على الجبهة المساندة هنا».
وأخيراً تفتّق ذهن العدو عن خدعة جديدة نشرتها جريدة «يديعوت أحرونوت» الصهيونية ومفادها: «عرض هدنة ٤٨ ساعة من جانب واحد – جانب «إسرائيل» – فإذا خرقها حزب الله بقذيفة واحدة ترتدّ عليه «إسرائيل» بحرب مفتوحة تحقق لـ «إسرائيل» أهدافها على تلك الجبهة والتي من أهمّها إرجاع تشكيلات النخبة لدى المقاومة الإسلامية الى مسافة ٨ كلم عن الحدود من أجل إنتاج بيئة عملانية تطمئن المستوطنين الصهاينة الذين هجروا الشمال بضغط من حزب الله ولتمكنهم من العودة الى أماكن إقامتهم قبل الحرب.
وفي قراءة تحليليّة للعرض الإسرائيلي هذا. نستنتج انّ «إسرائيل» التي ضاقت ذرعاً بالحرب المقيّدة على جبهة شمال فلسطين المحتلة، وأنها مع تهيّبها للذهاب الى الحلّ العسكري الذي يحقق لها أهدافها وجدت في هذا «العرض» الحلّ الذي يحقق لها مكاسب تتمناها وأهمّها:
1 ـ فصل الجبهة المساندة في جنوب لبنان عن الجبهة الرئيسية في قطاع غزة، ما يعني توجيه ضربة قاسية لمفهوم وحدة الساحات وإجهاض استراتيجية الضغط الذي تمارسه المقاومة والعودة الى إحياء ما تتضمّنه العقيدة القتالية الإسرائيلية من «العمل القتالي الإسرائيلي على جبهة واحدة وتجميد جميع الجبهات الأخرى».
2 ـ منح الجيش الإسرائيلي فرصة ٤٨ ساعة من الهدوء والأمن في الميدان وفي مسرح العمليات ما يمكنه من حشد القوى وانتشارها وفقاً لجاهزية هجومية للانطلاق في الهجوم الذي تحضّر «إسرائيل» له في آخر الشهر الحالي كما راج الحديث عنه على ألسنة المسؤولين لدى العدو الذين يردّدون بأنهم يمنحون السياسة والدبلوماسية فرصة حتى آخر الشهر قبل أن يشرعوا بالحلّ العسكري يعني الحرب.
3 ـ توريط أميركا بحرب ضدّ حزب لله كما ورّطت بمواجهة مع أنصار لله في اليمن، ومن المعلوم ان أميركا – أقله ظاهرياً – تدّعي أنها لا تريد توسيع الحرب وأنها تريد معالجة وضع الجبهة مع لبنان بالسياسة والضغط بما يوقف نارها، وبالتالي فإنها – ظاهرياً – لن تتورّط بحرب على هذه الجبهة، أما نتنياهو الذي يعتبر انّ بايدن منحه شيكاً مفتوحاً ووعده بأن يقاتل عنه كلّ أعدائه من أجل ان تتفرّغ إسرائيل لقتال حماس والمقاومة الفلسطينية في غزة، لكن هذا الشيكّ لا يُستعمل إلا اذا وجدت «إسرائيل» في حرب دفاعية تفرض عليها الدفاع عن النفس، ويبدو انّ من ركب عرض الهدنة التفت الى هذا الأمر وخطط لاستدراج حزب الله ليكون بادئاً بالحرب حتى تتمكن «إسرائيل» من زجّ أو توريط أميركا في الحرب ضدّه.
4 ـ أخيراً قد يكون من مقاصد «إسرائيل» من هذا العرض جسّ نبض حزب الله والوقوف على نياته في الميدان، فإذا رفض الهدنة وتالياً التهدئة فإنّ «إسرائيل» تحمّله نتائج الأمر وتضعه في مواجهة مع قسم من الداخل اللبناني.
وعليه نرى انّ العرض «الإسرائيلي» بشأن الهدنة لا يعدو كونه فخاً نصب للمقاومة في لبنان، يحقق لـ «إسرائيل» مكاسب جمة إذا وقع حزب الله فيه، ولذلك نرى كيف أنّ المقاومة كانت محقة بتجاهلها لهذا العرض وتمسكها بموقفها المبدئي الداعي الى وقف الحرب – العدوان الإسرائيلي على غزة، وتشدّدها بربط الجبهتين الرئيسية في غزة والمساندة في جنوب لبنان بشكل وثيق لا انفصام له يبتغى منه وقف العدوان وحفظ المقاومة.
موقف استراتيجي مدروس تتخذه المقاومة في لبنان متناغمة في ذلك مع الجبهات الأخرى المساندة والتي تشكل معها عناصر ومكونات العمل على مسرح عمليات المقاومة الإقليمي، المسرح الذي تشكل متراصاً ومتماسكاً ومتناغماً ومؤثراً بهذا الشكل لأول مرة في تاريخ الصراع مع العدو الصهيوني وحماته، وظهر تشكله مكسباً استراتيجياً يبدي الجميع الحرص عليه دونما تفريط او إهمال.
ومن جهة أخرى فإنّ المقاومة في لبنان تعلم وتدرك بانّ العدو الإسرائيلي لو كان قادراً على اتقاء المخاطر المنبعثة من جبهة الشمال بحرب مفتوحة يذهب اليها، لما تردّد لحظة واحدة في إضرام نارها، لكن عجزه عن توفير شروط النصر في تلك الحرب بمفرده حمله على المناورة وسلوك الأساليب التي ذكرنا والتي تفضي الى توريط أميركا بحرب تدخلها نيابة عنه.
أما أميركا التي اتخذت منذ سنوات قراراً بإقفال الجبهات بوجه جيشها في الشرق الأوسط والتي رغم تورّطها بقرار يتسم بالعمى الاستراتيجي بذهابها للعدوان على اليمن، انّ اميركا هذه تعلم انّ حرباً مع محور المقاومة الآن لن تتوقف إذا بدأت حتى تلتهم نارها المصالح الأميركية في المنطقة وتسقط مشاريعها وحلفاءها ولن تكون «إسرائيل» بمنأى عن مفاعيل تلك الحرب سلبياً.
لكلّ ذلك نرى انّ الحرب التي يريدها نتنياهو لتشكل حبل نجاة له شخصياً وسياسياً هي حرب تبقى مستبعدة والعرض/ الخدعة الأخيرة لن تمرّ وأميركا حتى اللحظة تحاذر ما يريده نتنياهو وتتجنّب الوقوع فيه، أما المقاومة فإنها أظهرت من الحرص والوعي الاستراتيجي ما يؤكد مناعتها وقوتها على تجنب خدع العدو.
يبقى احتمال واحد يقود الى الحرب وهو قرار «إسرائيلي» أرعن يكون قراراً انتحارياً تحسّبت له المقاومة وأعدّت له كلّ ما يلزم، وهذا ما يدركه العسكريون «الإسرائيليون» وأفصح عنه الـنـائـب الـسـابـق لـقـائـد الـقـيـادة الـشـمـالـيــة فـي جـيـش الـعـدو إيـال بـن رؤوفـيـن، حيث قال «نعلم أنّ حزب الله أقوى بكثير من حماس، وإذا اندلعت الحرب ستكون حرباً صعبة وعلينا أن نخبر الجمهور الإسرائيلي بذلك». فإذا كان جيشهم فشل في مواجهة حماس المحاصرة فكيف سيكون حاله في مواجهة حزب الله الذي له هذا العمق الاستراتيجي المفتوح وتلك القدرات التي لم يستعمل منها شيئاً يذكر حتى الآن…؟
*أستاذ جامعي ـ خبير استراتيجي