الأمن القومي في ذكرى ميلاد جمال عبد الناصر…
د. محمد سيد أحمد
ليست المرة الأولى التي نتحدث فيها عن رؤية جمال عبد الناصر للأمن القومي المصري، ففي ذكرى ميلاده في منتصف يناير من كل عام، نفرد مقالنا للحديث عن الزعيم الاستثنائي في تاريخ المصريين وحياتهم والأمة العربية، بل لا نبالغ إذا قلنا في التاريخ العالمي في الفترة التالية مباشرة للحرب العالمية الثانية، حيث كان العالم يتشكل من جديد وفقاً للثنائية القطبية الأميركية – السوفياتية، فحفر جمال عبد الناصر وبعض رفاقه من الزعماء الأمميين طريقاً ثالثاً مستقلاً وغير تابع عُرِف بكتلة عدم الانحياز.
وما جعلنا نختار قضية الأمن القومي المصري للحديث عنها في فكر جمال عبد الناصر في ذكرى ميلاده ١٠٦ هو ما تمرّ به مصر اليوم من تهديد لأمنها القومي من كل الاتجاهات، ويرجع ذلك للسياسات الخاطئة التي انتهجتها مصر على مدار نصف قرن من الزمان، فمنذ رحيل الزعيم جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970 وتولي الرئيس السادات مقاليد الحكم بدأ الهجوم على رؤية جمال عبد الناصر وسياساته، وفي إطار الهجوم استهدفت رؤيته للأمن القومي المصري والتي ترتكز على استيعاب الرجل لحقائق التاريخ والجغرافيا، حيث قدم رؤيته للأمن القومي المصري في كتابه فلسفة الثورة وكان ذلك في عام 1954 حيث أكد على أن الأمن القومي المصري يتطلب النظر بعيداً عن حدودنا الجغرافيّة؛ وهذا ما يؤكده التاريخ.
وبناءً على القراءة العميقة للوقائع التاريخية والإدراك الحقيقي للموقع الجغرافي المتميز لمصر في قلب العالم قدم جمال عبد الناصر رؤيته للأمن القومي المصري والتي تُعرَف بنظرية الدوائر الثلاث وهي الدوائر التي تمكن مصر من الحفاظ على أمنها القومي من ناحية وضمان الحفاظ على مكانتها كقوة إقليمية فاعلة ومؤثرة في محيطها الحيوي والعالم. والدائرة الأولى هي الدائرة العربية التي تُحيط بنا وترتبط مصالحنا بمصالحها وتاريخنا بتاريخها، والدائرة الثانية هي الدائرة الأفريقية التي نحن جزءٌ منها ونستمدّ منها شريان حياتنا وهو نهر النيل، والدائرة الثالثة هي الدائرة الإسلامية التي تربطنا بها العقيدة وحقائق التاريخ.
وبالطبع هذه الرؤية هي التي حكمت سياسات جمال عبد الناصر الخارجيّة، حيث أصبح مشروع القوميّة العربيّة إحدى الركائز الأساسيّة للحفاظ على الأمن القومي المصري، فكان سعيه الدائم لدعم حركات التحرّر الوطني في البلدان العربية، ومساندة الثوار، ومحاربة الأنظمة العميلة للاستعمار، والسعي لإقامة الوحدة العربية، ولم يتوقف جمال عبد الناصر هنا بل قام بدعم حركات التحرر الأفريقية، وساهم في إنشاء منظمة الوحدة الأفريقية عام 1963 وجعل مقرّها أديس أبابا العاصمة الإثيوبية، وأقام شركة النصر للتصدير والاستيراد التي مارست نشاطات اقتصادية واسعة داخل القارة الأفريقية. وعلى مستوى العمل الإسلامي قام بإنشاء مدينة البعوث الإسلامية في عام 1954 لإقامة وإعاشة الطلاب الوافدين من الدول الاسلامية للدراسة بالأزهر الشريف. وفي عام 1960 تم إنشاء المجلس الأعلى للشؤون الاسلامية، ثم تبعه في عام 1961 إنشاء مجمع البحوث الإسلامية لبحث ودراسة كل ما يتصل بالقضايا الإسلامية، وفي عام 1964 أنشأ إذاعة القرآن الكريم، وفي عام 1969 ساهم في إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي في الرباط بالمغرب.
وقد أدت رؤية جمال عبد الناصر للأمن القومي المصري عبر الدوائر الثلاث العربية والأفريقية والإسلامية إلى الحفاظ على الأمن القومي المصري ومنع أي تهديد له سواء من قبل الدول العربية أو الأفريقية أو الإسلامية التي تمثل محيطنا الحيوي لارتباطنا بهم جغرافياً وتاريخياً، ولم تتمكن القوى الإمبريالية العالمية التي كانت تستهدف تحجيم الدور المصري كقوى إقليمية عظمى من النيل من الأمن القومي المصري عبر اختراق الدوائر الثلاث والتأثير على دول هذه الدوائر. وهو ما يحدث الآن بفضل الرؤية القاصرة للأمن القومي المصري التي تبناها الرئيس السادات الذي رفع شعار مصر أولاً والذي تلخّص في الانكفاء على الذات.
وخلال العقود الأربعة التالية انسحبت مصر من محيطها الحيويّ وتقزّم دورها وانكمشت مكانتها كقوة إقليمية عظمى، وعندما هبت رياح الربيع العربي المزعوم وجدنا أنفسنا في مواجهات داخل حدودنا الجغرافية وخاض جيشنا الباسل معارك مباشرة، فعبر حدودنا الشرقية عبرت إلينا جحافل الجماعات التكفيرية الإرهابية، بعد أن أخذت إشارة البدء من العدو الأميركي لتنفيذ الجزء الخاص بمصر في مشروع الشرق الأوسط الكبير، ودارت معارك شرسة على كامل جغرافية سيناء، وما زال التهديد اليوم مستمراً عبر العدوان الصهيوني على غزة والذي يعلن بكل بجاحة أنه يسعى لتهجير سكانها وتوطينهم في سيناء. وهناك وعبر البوابة الغربية أصبحت الأرض العربية الليبية مسرحاً لصراع دولي يسعى لسرقة ونهب ثرواتها وبالطبع استخدمت القوى الدولية المتصارعة العديد من الميليشيات الإرهابية المسلحة، وهو ما يهدد الأمن القومي المصري بشكل مباشر. ويقوم الجيش المصري البطل بمواجهة هذا التهديد، ومن الجنوب جاء التهديد من منابع النيل شريان الحياة للمصريين حيث انتهز العدو الصهيوني الفرصة وأقنع إثيوبيا بإقامة سد النهضة للتأثير على حصة مصر التاريخية في مياه النيل، وهو تهديد مباشر للأمن القومي المصري، تواجهه مصر الآن في محاولة للحفاظ على حق شعبها التاريخي.
واليوم وفي الذكرى ١٠٦ لميلاد الزعيم جمال عبد الناصر لا بدّ من إحياء رؤيته للأمن القومي المصري. فالتخلي عن نظرية الدوائر الثلاث هو ما أوصلنا لهذه المرحلة من التهديد المباشر لأمننا القومي. فتجب العودة للعمل على لمّ الشمل العربي كمقدمة لإحياء المشروع القومي العربي، فما يحدث في غزة ومن قبله في السودان وليبيا وسورية واليمن والعراق ولبنان يجعلنا على يقين بأن الوحدة ضرورة وفرض عين، ولا بدّ من مد الجسور مع الدول الأفريقية لإعادة العلاقات لسابق عهدها عندما كانت الدول الأفريقية لا يمكن اختراقها للإضرار بالمصالح المصرية. وحتماً يجب النظر في علاقاتنا بالدول الإسلامية والبحث عن وسائل لتوطيدها، فحقائق التاريخ وواقع الجغرافيا يقول إنه لا أمن بعيداً عن هذه الدوائر، التي يمكن من خلالها عودة مصر للقيام بدورها كقوى إقليمية عظمى لها وزنها وكلمتها المؤثرة في محيطها الحيوي والعالم، اللهم بلغت اللهم فاشهد.