نتنياهو بين الانتحار وانتظار رصاصة الرحمة
د. حسن أحمد حسن*
ما فعله الفلسطينيون منذ السابع من تشرين الأول 2023م. يفوق الطاقة التقليدية المتعارف عليها لدى جميع شعوب العالم، لا بل يقترب من حدود المعاجز التي غابت. وها هم الفلسطينيون يعيدون صياغتها وتجسيدها لتبقى عبرة للبشرية وعظة لكل المظلومين والمقهورين المغلوبين على أمرهم ليوقنوا أن بإمكاناتهم الذاتية يستطيعون تغيير اللوحة، وتجاوز الواقع المفروض احتكاماً لشريعة الغاب الخالي من كل ما له علاقة بالأخلاق والقيم الإنسانية. والمعجزة الفلسطينية اليوم تتجلى بأبهى معانيها، وأجلّ دلالاتها اللغوية والسياسية والعسكرية والفيزيولوجية والمعنوية، ومن حق كلّ فلسطيني يؤمن بانتمائه للتراب الفلسطيني المتماوج تحت أقدام جنود الاحتلال ومستوطنيه أن يفخر بأنّه من “شعب الجبارين” بحق. وهذا ينسحب على جميع فصائل المقاومة وكلّ مكونات الحاضنة الشعبية التي تحمّلت وما تزال ما لا يستطيع كائن حي تحمّله، والتي أثبت بالدلائل والبراهين الدامغة أن تناسباً طردياً يحكم العلاقة بين الوحشية والإجرام ونزعة القتل والرقص على الجماجم وفق العرف التلمودي الصهيوني من جهة، وبين صلابة الإرادة الفردية والجماعية لدى الفلسطينيين، وتعاظم القدرة على كسر المخرز الإسرائيلي وتثلُّم حرابه أمام العين الفلسطينية المتطلعة بأمل كبير لاستعادة ما اغتصب من أرض وحقوق، بناء على استعادة زمام المبادرة وفرض الأجندة الفلسطينية المحقة على العالم برمته، بغضّ النظر عن جنون الإدارة الأميركية والسعار الذي أصاب كل سدنة الهيكل المتداعي فوق رؤوس الكهنة على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم المتناقضة مع كل ما له علاقة بإنسانية الإنسان وحق الحياة بكرامة الذي منحته السماء للجميع، فاستشاط الأشرار غضباً، وخرج القتلة وأنصار الإبادة الجماعية عن كل عرف وقيم إنسانية إرضاء لنزعة الفتك والإبادة لدى الوحوش الموغِلة بشراستها وتعطشها لسفك الدماء البريئة، وانطلقت آلة القتل والتدمير الصهيو أميركية لتتصدى لإرادة الخالق والمخلوقات في شتى أنحاء المعمورة، ولكن هيهات للظلاميين الجدد أن يطفئوا نور الله بأفواههم المسمومة” (ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون).
يدرك المقاومون الفلسطينيون ويدرك عشاق المقاومة في جميع أقطاب هذا المحور أن الضريبة غالية ومرتفعة، وأن وحشية حكومة نتنياهو غير مسبوقة في التاريخ، ولا تضاهيها إلا نزعة القتل والفتك والبطش والترهيب لدى اليانكي الشاغل ما يسمّونه البيت الأبيض وأركان إدارته الأكثر هوساً بالحفاظ على مصاصي الدماء والدراغولات المتسترة بهيئة البشر لنشر الرعب وفرض تكميم الأفواه عبر سحق كل من يفكر بقول “لا” لنزعة القتل والإبادة الجماعيّة، لكن أولئك جميعاً غدوا في مركب واحد يغرق، ولا أمل بقدرة الأساطيل وحاملات الطائرات والمدمرات على إنقاذ من أوغل بعيداً في البحر العالمي، ولم يعد الوقود المتبقي في زورقهم المتداعي كافياً للعودة إلى الشاطئ، كما أن المسافة المقطوعة تحتم وصول طواقم الإنقاذ بعد فوات الأوان، وقد يكون من السذاجة التفكير بأن إدارة بايدن تمارس ضغوطاً جدية على نتنياهو وحكومته العنصرية لوقف إطلاق النار. وهذا ما يتبجّح به الإعلام الأميركي نفسه، وبالتالي كل ما يتمّ تسويقه ليس أكثر من تضافر الجهود وتكاملها لضمان إكمال القضاء على ما تبقى من معالم القضية الفلسطينية بالسياسة وسيناريوات الحلول من وجهة النظر الأميركيّة المستندة بخوافيها وقوادمها على بقاء كيان الاحتلال الإسرائيلي غدة سرطانية متفوّقة على جميع دول المنطقة وشعوبها لضمان استمرارها بأداء دورها الوظيفي المتآكل والمتهالك بآن معاً، وقد يكون من المفيد هنا التوقف عند بعض العناوين الفرعيّة التي تساعد على اتضاح الصورة بشكل أفضل، ومنها:
*عودة المقاومة لبسط السيطرة على كل نقطة يعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي سحب قواته منها، وبخاصة في شمال غزة، واعتمادها منصة لرشقات جديدة من الصواريخ باتجاه الداخل أو ما يُسمّى بالبطن الرخو الإسرائيلي.
*ارتفاع عداد القتلى والجرحى والمصابين في صفوف قوات الاحتلال، وتناسب سرعة العداد طرداً مع زيادة وحشية القصف الإسرائيلي، وهذا ما ظهر جلياً بتاريخ 23/1/2024م، واضطرار الإعلام المعادي للاعتراف بأنه اليوم الأصعب على “الكيان الإسرائيلي” منذ السابع من تشرين الأول عندما انطلقت الموجة الأولى من ملحمة طوفان الأقصى. ـ ـ تضمين العديد من وسائل الإعلام الإسرائيلية أقذع الألفاظ في التهجم على نتنياهو ووصفه بأنه “كذاب ابن كذاب” ولا يمكن الوثوق بكلامه، ولا القبول بتعهداته لأنه لا يلتزم بوعد ولا بعهد، وتزامن ذلك مع الصراخ الذي ضجت به شوارع تل أبيب للآلاف الذين تظاهروا مع عائلات الأسرى الإسرائيليين أمام بيت النتن المذكور.
ـ تكرار الحديث في الإعلام الإسرائيلي عن الشرخ الذي يزداد اتساعاً بين مكونات مجلس الحرب المصغر الذي يقوده نتنياهو، إلى درجة الاقتراب من الاشتباك بالأيدي بين غالانت ورئيس الوزراء. وكلاهما لا يملك رؤية ممكنة ليس لليوم التالي على توقف الحرب، وإنما لليوم التالي من استمرار الأعمال القتالية، وتزايد أعداد القتلى والمصابين والمفقودين الذين تسارع مروحيات قوة الإنقاذ لسحبهم والتفتيش عن بقاياهم.
ـ الأفق المسدود على الصعيدين الإقليمي والعالمي أمام أية مبادرة تتضمن تسويق ولو صورة انتصار لإخراج نتنياهو وحكومته العنصرية من دوامة الغرق الحتمي والمتسارع، مع التذكير بسرعة الانتقال من خانة إلى أخرى أدنى في سلم الأهداف التي أعلن عنها، حيث النزول من تحقيق انتصار واضح وشامل ولا يقبل التأويل، إلى البحث عن صورة انتصار، ولعلّ ما تعمل عليه إدارة بايدن اليوم وكل من ينضوي في العباءة الأميركية القذرة لا يتجاوز سقف تغطية الهزيمة النكراء مكتملة الأركان للكيان المؤقت عسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً وإعلامياً، بل وعلى شتى الصعد والميادين الداخليّة منها والخارجية.
ـ عجز واشنطن المركب عن الحيلولة دون تآكل سمعة الكيان على المستوى الدولي، والتبدّل الجوهري في الرأي العام من حكومة نتنياهو، إلى درجة إحالتها للمثول أمام محكمة العدل الدولية، وهذا ما لم يكن يخطر ببال أكثر الناس تفاؤلاً باستعادة شيء مما تبقى مما يسمّى النظام الدولي، المصادر منذ عقود بكل مفاصله بالبلطجة الأميركية المقيتة.
ـ المتغيّر الجيوبولتيكي الأهم الذي فرضه اليمن المقاوم وتحدّيه للغطرسة الصهيو ـــ أميركية، وفرض إرادته المحقة والإنسانية بالقوة على الغطرسة الأميركية، واستمرار استهداف السفن الأميركية والبريطانية والإسرائيلية، ومنع مرور جميع السفن المتوجهة إلى شواطئ كيان الاحتلال، ولم يسفر العدوان والوحشية الأميركية ضدّ اليمن وشعبه إلا عن المزيد من التمسك بمواقفه المشرفة التي تؤكد أن واشنطن هي الراعية الأولى للإرهاب بمختلف مسمّياته وأشكاله.
خلاصة
أمام هذا الواقع القائم لم يبقَ أمام نتنياهو إلا الانتحار فعلياً، وليس من الحكمة اليوم إطلاق رصاصة الرحمة على رأسه، وتحويله إلى بطل عبر توسيع دائرة الحرب التي يحرص على إيقاد فتيلها، والحديث عن معارضة واشنطن لذلك لا يمكن فهمه إلا من خلال حرص إدارة أوباما على إطالة الواقع القائم أطول فترة ممكنة، لعلها تستطيع بالتهديد والإجرام فرض معطيات جديدة، لأنّ واقع الحال القائم والوضع الجديد المتشكل يؤكد حقيقة واضحة عنوانها: حتميّة خروج أميركا من المنطقة على وقع النزف المشتدّ غزارة في جسد الوحش الإسرائيلي المثخن بحراج غائرة وتتسع، لتصل إلى عمقه ومحددات وجوده. وهذا ما يرعب واشنطن وكل الزواحف التي تسبح بحمدها بكرة وعشية.
*باحث سوريّ متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية.