النتائج السياسية لـ «طوفان الأقصى»
زياد حافظ*
استمرار المعارك في غزّة والضفة الغربية وعلى حدود لبنان وفي سورية والعراق واليمن لا يحجب النتائج السياسية لزلزال “طوفان الأقصى”. فالعدوان الوحشيّ على أهلنا في غزّة والضفة، والاغتيالات لقيادات في محور المقاومة في سورية وفلسطين ولبنان من معالم الإخفاق على تحقيق أيّ إنجاز في الميدان يغيّر في معادلات مسار ومصير الصراع وفي ميزان القوّة الذي يحكمهما. فإحدى ركائز الكيان الصهيونيّ، وهي القدرة العسكرية على إنجاز أيّ هدف تضعه باتت في مهبّ الريح حيث بعد أكثر من ثلاثة أشهر ما زالت المبادرة العسكرية بيد المقاومة ولم تفلح القيادة العسكرية الصهيونيّة في تغيير ذلك.
في إحدى إطلالاته الأخيرة عدّد الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله نتائج “طوفان الأقصى” والتي لا نردّدها. فهي بمثابة وقائع وحقائق وليست اجتهادات قد تخضع لسجال أو مناقشة بل قواعد نستطيع من خلالها استخلاص عبر أساسيّة في مقاربة المشهد السياسي المستقبلي في الوطن العربي وفي الإقليم والعالم. فبالإضافة إلى الأهداف المباشرة كتحرير الأسرى وإيقاف استباحة الأقصى والتوسّع الاستيطاني والحصار المزمن على القطاع وموجة التطبيع التي كادت تجتاح الجزيرة العربية، فهناك نتائج سياسية أكّدت أنها كانت وما زالت طوفاناً جرَف وسيجرف كثيراً من المسلّمات الفكرية السياسية والاقتصادية والوقائع والمشاهد وموازين القوّة التي حكمت العالم للعقود التي تلت الحرب العالمية الثانية.
العبرة الأولى هي تأكيد دور الشعب في التأثير على قيادات المقاومة. المظاهرة المليونيّة في بغداد أعطت التفويض للحشد الشعبي لمواجهة الأميركيين. الشعب في فلسطين أجبر المقاومة على “فقي الدملة”. المظاهرات المليونية في اليمن أعطت التفويض لأنصار الله لمواجهة العدوان الأميركي البريطاني. فهذه الحقائق لها ترجمة سياسية مباشرة على مسار الأمور حيث “السقف” السياسي تحدّده الجماهير وليست القوى الطليعية التي تشكّلها قيادات محور المقاومة. هذا يعني أنّ الكلام عن “تسويات” كبرى أو صغرى لا قيمة له خارج الأطر التي تحدّدها الجماهير، وكما قال السيد الكلام هو في الميدان. لكن لا بدّ من أن تتوقف العمليات العسكرية في يوم ما وتنتهي بحلول سياسية. هذا صحيح، ولكن الحلول السياسية ستكون الحلول التي تفرضها المقاومة التي أصبحت تعبّر عن إرادة الشعوب. فالشعوب تجاوزت كونها “البيئة الحاضنة” إلى مرحلة القيادة وهذا شيء جديد في المشهد السياسي العربي بل العالمي. الثورات تنتج قيادات تأكل أبناءها كما يقول المثل وتغرق في صراعات على السلطة والذاتيّات التي تدمّر التحالفات. لكن ما نشهده في مختلف الساحات هو أنّ قيادة المقاومة للجماهير مرتبطة بتمسّكها بتطلّعات تلك الجماهير ولا تستطيع الخروج عنها. نرى هنا ظهور دينامية جديدة حيث المشاركة الشعبية هي الرافعة لأي عمل سياسي وقد يؤكّد المفهوم والمضمون الحقيقي للمشاركة الشعبية في صنع القرار. فالنخب لن تستطيع احتكار القرار الذي هو بيد الجماهير. وسائل التأثير التقليدية كآلية الحزب أو التنظيم لم ولن تعود قادرة على الانحراف دون أن تتحمّل نتائج الانحراف التي ليست محصورة بصندوق الاقتراع. فللشارع دوره الأساسي في المساءلة والمحاسبة وإصدار الحكم.
العبرة الثانية هي أن “الميدان” كشف عورات المنظومة الغربية بما فيها الكيان الصهيوني الذي يبرهن يوماً بعد يوم أنه أوهن من بيت العنكبوت. والعورات المقصودة هنا هي الإخفاق في مقاربة المشهد وتطوّراته لما يحصل من تطوّرات في الوطن العربي والعالم الإسلامي حيث سوء التقدير للنخب الحاكمة في الغرب وبعض الأنظمة العربية كان مبنياً على فرضيات وتصوّرات خاطئة كشفتها الإخفاقات المتتالية سواء في العراق وأفغانستان أو في أوكرانيا وسورية، أو في اليمن، أو في لبنان، وقبل كل شيء في فلسطين. الميدان هو مَن كشف الضعف البنيوي للمنظومة الغربية وللنظام العربي الرسمي رغم مظاهر القوّة المادية التي كان يعرضها الكيان والغرب الجماعي ومن يدور في فلكهما من نخب عربية تنقل دون أي قراءة ناقدة للواقع والموقف الغربي والصهيوني. فالإخفاقات التي لحقت بالغرب والكيان تعود إلى أسباب عديدة فكرية وسياسية واقتصادية وقبل كل ذلك أخلاقية عرضناها سابقاً ولن نعود إليها.
العبرة الثالثة هي أن الكلام عن “تسويات” بين القوى العظمى ستنعكس بشكل مباشر على مجريات الأمور وتفرض نظاماً إقليمياً يتماهى مع النظام الدولي الجديد الذي لا بد له من أن يقوم هو بحاجة إلى نقاش. فملامح “تسوية” ما بين القوى العظمى غير موجودة خاصة بين محور الكتلة الأوراسية والمنظومات التي نشأت فيها وبين منظومة الغرب الجماعي بقيادة الولايات المتحدة. بالنسبة لنا، فإنّ منظومة الغرب الجماعي غير متماسكة بل متهالكة بما فيها الولايات المتحدة. وبالتالي هنا توجد معضلة “المُحاور”، فليس من المؤكّد أنه ستوجد منظومة في الغرب تستطيع أن تقدّم أيّ شيء في التسوية المرتقبة. والساحة الأوكرانية التي تختزل مواجهة الأطلسي لروسيا لا توحي بوجود “تسويات” بل فقط الحلول التي سيفرضها المنتصر في المواجهة أيّ روسيا. كما أنّ روسيا لم تعُد معنية بالتعاون والتفاهم مع أوروبا والغرب بشكل عام. فالقطيعة بينهما ستكون على الأقلّ لمدة جيلين من الزمن ما يعني أنّ النظام العالمي الجديد سيكون متعدّد الأقطاب والمحاور مع انحسار كبير للغرب في العالم. أوروبا الغربية ستكون الطرف الغربي للقارة الأوراسية وهامشية في أحسن الأحوال والمشهد في القارة الشمالية الأميركية سيشهد تحوّلات تُخرج الولايات المتحدة من دائرة الدولة العظمى المهيمنة إلى مجموعة كيانات منكفئة على ذاتها في محاولة لإعادة بناء ذاتها. هذا موضوع يستحق نقاشاً منفصلاً، ولكن خلاصة الأمر هي أنّ ما نراه اليوم من دور أساسيّ للولايات المتحدة لن يكون قائماً في المستقبل القريب.
العبرة الرابعة هي مراجعة بنية النظام العربي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية والذي أوجده المستعمر الغربي عبر سياسة التجزئة في غرب آسيا وشمال أفريقيا خدمة وتبريراً لوجود الكيان الصهيوني. فمجريات “طوفان الأقصى” أعادت إلى الواجهة التساؤل حول جدوى الكيانات المصطنعة التي أوْجدها المستعمر الأوروبيّ والتي حمتها الإمبريالية الأميركية بعد أفول وسقوط الامبراطوريات الأوروبية. مجريات الأحداث التي سبقت طوفان الأقصى أنذرت بما سيأتي من تحوّلات بما فيها عملية الطوفان بحدّ ذاته. فبينما كان النظام العربيّ منصبّاً على تجاهل القضية الفلسطينية ومحاولاً لإحلال عدوّ آخر غير الكيان الصهيوني فإنّ الجماهير العربية كانت في مكان آخر. انقطاع النخب الحاكمة في الوطن العربي عن الواقع الشعبي في الأقطار العربية ساهم في تكوين المفاجأة (لتلك النخب) التي أحدثتها مباريات كأس العالم في قطر، وفي قطر بالذات، وما تمثّله من نظام عربي ريعي تابع للغرب ومنظّر ومموّل لتدمير سورية لأنها لم تتخلّ عن القضية الفلسطينية. الاحتفال الشعبي بفلسطين من لاعبين ومشاهدين طغى على مشهد كأس العالم وأكّد وحدة الجماهير. ولما قامت عملية “طوفان الأقصى” هبّت الجماهير وخاصة في الدول المطبّعة مع الكيان لنصرة فلسطين. وهنا لا بدّ من أن نلحظ الحركة الشعبية الواسعة والمنقطعة النظير التي ظهرت في اليمن لنصرة فلسطين ما يضع اليمن في طليعة الدول العربية المؤهّلة لقيادة مشروع نهضة الأمة. ففلسطين توحّد الأمة والنصر في فلسطين سينعكس على بنية الأنظمة الحاكمة في الوطن العربي. وفي هذا السياق أيضاً نشير إلى دور فعّال لهيئات شعبية كالمؤتمر العربي العام الذي يضمّ المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي الإسلامي والمؤتمر العام للأحزاب العربية والجبهة التقدمية العربية ومؤسسة القدس التي كافحت عبر تنسيقيات وندوات وملتقيات عربية ودولية لتعبئة الجماهير العربية وأحرار العالم في مواجهة التطبيع، كما في مواجهة العدوان على سورية ومواجهة الاحتلال الصهيوني لفلسطين.
وكما ذكرنا أعلاه فإنّ الجماهير هي التي تفرض الآن السقوف السياسية على فصائل المقاومة. فالقوى الطليعية في الأمة، أي فصائل المقاومة والمؤتمرات المذكورة، تحوّلت إلى امتداد للجماهير وليس لقيادتها فحسب في الصراع مع الكيان الصهيوني بل أصبحت بسبب الأمر الواقع الجهة الأساسية لعامل التغيير المطلوب والمرتقب والمقبل. السؤال المطروح هو كيف يمكن أن يتحوّل محور المقاومة العربية إلى عامل تغييري؟ وهل المقاومة تريد أن تكون أداة للتغيير ولبناء المستقبل؟
فعل المقاومة هو تغيير بحدّ ذاته لكن منحى التغيير المطلوب لمستقبل الأمة وصيانة النصر المرتقب يتطلّب مشروعاً سياسياً واقتصادياً وثقافياً ليس من الواضح أنها حاملة لتلك الرؤية والمشاريع، علماً أن إنجازات النصر المقبل وتحرير فلسطين لن تحميها إلا دولة الوحدة. فمجريات الأمور ستفرض عليها التفكير بها كما أنّ الحقائق الجيوسياسية ستفرض الخروج من الإطار القطري إلى الإطار القومي. وما يجعل ذلك حتمياً هو إخفاق الدولة القطرية على توفير الأمن والتنمية والرخاء وإنْ أعطيت لها كافة الفرص لـ “التمكين” بدلاً من استكمال التحرير والوحدة. فالجماهير العربية من المحيط إلى الخليج تؤكّد أنها شعب واحد وبالتالي هذه الأمة بحاجة إلى دولة تجسّد وحدتها. الأمة العربية هي الأمة الوحيدة التي لا دولة لها بينما الأمم الأخرى لها دول. في المرحلة السابقة وحتى الساعة تضافرت قوى الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية (مصطلح الخمسينيات والستينيات لوصف بعض الأنظمة العربية ما زال صالحاً) لمنع تحقيق الوحدة. لكن اليوم فإنّ الاستعمار القديم والجديد والصهيونية في حالة تراجع بل انكسار. فهل تستطيع القوى الرجعية منع الوحدة؟
المشكلة قد تأتي من قوى داخل بنية النظام العربي. فهناك مصالح لنخب عربية مرتبطة ارتباطاً عضوياً بالمصالح الغربية. وهي التي ستكون رأس الحربة في الحفاظ على الوضع الكياني القطري وستبذل كلّ ما لديها من إمكانيات لمنع التغيير والوصول إلى الوحدة على قاعدة أن تكون تلك النخب الأولى في القطر ولا الثانية على الصعيد القومي. وهذه القوى هي المسؤولة عن حالة التردّي في الوضع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وبطبيعة الحال السياسي. فمصالحها هي فوق أيّ اعتبار وطني وقومي وهي بالفعل الثورة المضادة لأيّ مشروع تحرّري ووحدوي. لذلك فإنّ الدعوة إلى التغيير هي فعلياً دعوة إلى الثورة على الواقع القائم. فهل الطوفان الشعبي سيجرفها كما يجرف الكيان وحكومات الدول الغربية؟
في رأينا نعم. هذا ما نتوقعه وفقاً لقراءتنا للمعطيات والتحوّلات الجارية رغم الصعوبات المذكورة. لنا ثقة بالشعب لإجراء التغيير وإقامة الوحدة كما كانت لنا الثقة بهذا الشعب في مقاومة الاحتلال. لكن ليس من الأكيد أنّ بناء دولة الوحدة سيكون من فعل تنظيم معيّن بل سيكون نتيجة الكتلة التاريخية المجتمعة لمكوّنات الشعب في كافة الأقطار العربية. هذه هي مهمة القوى الشعبية التي واكبت مرحلة تعبئة الجماهير لمواجهة الاحتلال.
*باحث وكاتب اقتصادي سياسي
والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي