تطهير غزة… هدف لا عودة عنه لمجرم الحرب!
د. عدنان منصور*
منذ اللحظة الأولى التي قرّر فيها مجرم الحرب بنيامين نتنياهو الذهاب بعيداً في حملته العسكرية، وإبادته الجماعية لقطاع غزة، لم يكن هدفه فقط القضاء على المقاومة فيه، لأنّ الاعتداءات العسكرية الإسرائيلية المتكررة التي قام بها جيش الاحتلال خلال السنوات الثلاثين الماضية، لم تستطع كسر إرادة الفلسطينيين وترويضها، ولم تقدر بالتالي على انتزاع روح المقاومة منهم، والتي ظلت تتفاعل وتتوهّج عاماً بعد عام، رغم كل الحروب التي شنتها «إسرائيل» على غزة أعوام 2008 و2009 و2014 و2021، وآخرها الحرب المستمرة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وحتى اليوم…
عندما تحدث الرئيس الأميركي جو بايدن قبل أيام عن ضرورة حلّ الدولتين، جاء ردّ نتنياهو سريعاً رافضاً لهذا الحلّ، مؤكداً على جغرافية دولة الاحتلال الإسرائيلي الممتدة من النهر إلى البحر.
لا شك في أنّ كلام نتنياهو هذا، يضع نهاية للاتفاقات الموقعة ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، ومبدياً عدم اكتراثه بالقانون الدولي، وبالاتفاقيات الموقعة، لا سيما اتفاق أوسلو مع الجانب الفلسطيني المتمثل بالسلطة في رام الله، ولا بكلام بايدن ومن لفّ لفّه.
مَن يتتبّع فكر، نتنياهو السياسي ونزعته التوسعية، وسلوكه العدواني المتطرف المبني على الكراهية، والعنصرية، والعنف وإلغاء الآخر، لا يستغرب الذي يقوم به، غير عابئ بالآخرين أكانوا من الأصدقاء أو الأعداء، من الداخل أو من الخارج.
لقد كشف نتنياهو النقاب عما يدور في خلده منذ أوائل التسعينيات حيال الدولة الفلسطينية، ومسألة اللاجئين، وحدود الكيان، ومفهوم السلام والأمن لـ «إسرائيل»، عندما انتُخب عضواً في الكنيست «الإسرائيلي» عام 1992، وقبل أن يتولى رئاسة الحكومة الإسرائيلية للمرة الأولى عام 1996.
لقد بقي كلّ من الضفة الغربية وقطاع غزة الهاجس الأكبر الذي يؤرق على الدوام القادة الإسرائيليين وعلى رأسهم نتنياهو، نظراً لما تشكله الضفة الغربية والقطاع، من تحدّ كبير للكيان، ومن إصرار فلسطيني على استعادة الأرض وتحريرها من الاحتلال الإسرائيلي.
هذه الحقيقة لم يستطع الصهاينة وبالذات نتنياهو تجاوزها أو طمسها بصورة نهائية. إذ انّ نتنياهو والقادة العسكريين معه، ظلوا يعملون على ما يعزز أمن «إسرائيل» المتصدّع، ويصون المجال الحيوي الذي يوفر لدولة الاحتلال الحماية الدائمة، والاستقرار، وسلام الأمر الواقع «الإسرائيلي» في الداخل والمحيط. من أجل ذلك لجأ نتنياهو دون تردّد الى اتباع سياسة الإلغاء والاختزال، حيث رأى أنه من المستحيل الاقتناع أو القبول بفكرة التعايش بين الفلسطينيين والإسرائيليين على أرض واحدة. وهذا ما دفعه الى اتباع سياسة التوسّع، ومصادرة أراضي الفلسطينيين، وإكراههم على ترك مناطقهم، والنزوح الى أماكن أخرى بعيدة، والسير قدماً في بناء المزيد من المستوطنات.
إنّ رفض الدولة الفلسطينية وفقاً لمفهوم نتنياهو، مردّه الى أنها تتعارض مع استمرارية «إسرائيل» وأمنها ووجودها. لذلك يصرّ ويؤكد على «أنه يتوجّب على «إسرائيل» أن تحتفظ بالعمق الاستراتيجي الحالي الذي تمثله الضفة الغربية… وأنّ وجود دولة فلسطينية مثلها مثل اليد الممدودة لخنق شريان الحياة لـ «إسرائيل».
نتنياهو في كتابه «مكان بين الأمم» يرى «أنّ مناطق الضفة الغربية حيوية لمستقبل الدولة، من غور الأردن وحتى البحر المتوسط… وأنّ أرض «إسرائيل» الغربية أيّ المنطقة الموجودة حالياً تحت سيطرة «إسرائيل»، هي وحدة إقليمية واحدة، فيها سلسلة جبلية واحدة، تشرف على سهل ساحليّ واحد. وكلّ من يقترح تقسيم هذه المنطقة الى دولتين ينقصهما الاستقرار والأمن، يحاول الدفاع عما هو غير قابل للدفاع، يكون كمن يدعو لكارثة.»
نتنياهو لا يريد وقف إطلاق النار في غزة، ولا يريد تبادل الأسرى، ولا تهمّه حياتهم، لأنه لا يريد أن يعطي الفلسطينيين أي فرصة لإطلاق سراح آلاف المعتقلين في السجون الإسرائيلية يحققون من خلالها إنجازاً ونصراً كبيرين. لن يتردّد نتنياهو في أن يتخلى عن الأسرى الإسرائيليين وإنْ قتلوا، حتى لا يبادلهم مع آلاف المعتقلين الفلسطينيين، ويفوّت الفرصة على المفاوضة في هذا الشأن.
في عدوانه الواسع النطاق على غزة، يعتبر نتنياهو أنّ حربه مع القطاع هي معركة مصير ووجود، أياً كانت المواقف الدولية المؤيدة لها، أو المنددة بها. فهو لا شك مستفيد بشكل كبير جداً من دعم الولايات المتحدة، وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وغيرها لحربه، وهو ايضاً مرتاح لصمت دول عربية وزعماء عرب، ودعم ضمني منهم، حيال ما يجري في غزة حيث بقيت مواقفهم الهزيلة المخزية حيالها، تقتصر على مفردات سياسية هشة لا طعم لها ولا فائدة مرجوة منها.
ما كان نتنياهو ليتمادى في طغيانه وإجرامه، لو كان هناك موقف عربي موحّد صارم، يرتقي الى مستوى المسؤولية القومية، يواجه الأحداث بكل حزم وشجاعة، وهو يتخذ القرارات الجريئة التي تلجم مجرم الحرب وقادته. لكن بوجود جامعة العار العربية، وأمينها العام «ابو الهول»، التي أضحت بمثابة «خيال المآتة» على ساحة الصراع العربي الإسرائيلي، جامعة لم يشهد العالم مثيلاً لها في صمتها، وتخاذلها، وغيبوبتها، وتخلّيها عن مسؤولياتها، وتغافلها المتعمّد عن مجازر غزة، وعدم استجابتها لنداء المسحوقين وأنين المرضى والجائعين في القطاع، وانعدام النخوة العربية، والأخوة، والحمية والحسّ الإنساني عند العديد من دولها وزعمائها، جعلت مجرم الحرب نتنياهو يتمادى بكلّ وقاحة وصلف في مجازره، مستفيداً من المناخ العربي المشجع له، ومن مواقف الذين آثروا على الدوام التآمر على القضايا العربية وأولها قضية فلسطين.
أين العرب و»جامعة الخلافات العربية» حيال ما يجري في دول العالم حيث يتحرّك فيه زعماء وقادة شرفاء، وأحزاب، وسياسيون، وفاعليات، ونشطاء، وحركات، وشعوب، يندّدون بالعدوان الإسرائيلي، ويطالبون بوقف لإطلاق النار، ومحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين.
هي حال الأمة وقرارات جامعتها العربية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، قرارات وللأسف الشديد لم تجد طريقها الى التنفيذ، حيث كان العرب يتفقون نظرياً على القضية، وعملياً كانوا يتفرّقون. ولعلّ الإخفاقات في هذا المجال تعود الى عدم الجدية، والصدقية، والاستهتار لجهة متابعة تنفيذ القرارات والتنسيق معاً، والمساءلة في ما بعد.
من اللافت أنّ محفوظات جامعة الدول العربيّة تحتفظ بكم هائل من القرارات التي لم تترك شاردة او أمراً يتعلق بالقضية الفلسطينية إلا وتناولته وعالجته.
لكن المعالجة بقيت على الورق، دون متابعة او تنفيذ. من هنا نجد أن العرب لم يجتمعوا يوماً على إدارة الحرب ليحاربوا معاً، ولا على إدارة السلام ليسالموا معاً، مما أدّى في الحالين الى الفشل في التنسيق، وتجزئة العمل الشامل المشترك، وخسارة فادحة للقضية على مستوى شمولية العمل القومي العربي الموحّد.
ليعلم المغفلون أنّ حرب غزة حرب وجود، لا حرب تسويات. حرب مصيرية لا حرباً موضعية. هل يعلم هؤلاء أنّ نتنياهو يريد تسوية القضية الفلسطينية بالأرض، وترحيل سكانها؟! من هنا يجب على العرب بمن فيهم من متخاذلين، وانهزاميين ومتواطئين، ومتآمرين، أن يدركوا ويعوا جيداً الخطر الذي يحدق بهم جميعاً. فإنْ لم يتداركوا الأمر قبل فوات الأوان فإنّ كرة اللهب الإسرائيلية ستتدحرح على رؤوسهم، وتنتقل إلى ديارهم عاجلاً أم آجلاً. عندها لن تكون «إسرائيل» بحاجة اليهم، ولا إلى صديق او عميل، او حليف، او مطبّع، او عبد مأجور.
المنطقة كلها على صفيح ساخن، وأمام تحولات كبرى خطيرة، والمنتصر فيها هو الذي سيرسم خريطتها. فلا مجال أمام الفلسطينيين والعرب الأحرار من خيار إلا خيار المقاومة والنصر، وإنْ كانت التضحيات باهظة، مؤلمة، وكبيرة، لأنّ نصر غزة يعني بداية تحرير فلسطين، وتحلل الكيان المحتلّ، وبالتالي تحصين المنطقة في وجه قوى الهيمنة والاستبداد والعدوان.
بيدكم يا قادة العرب كلّ مقوّمات القوة والنصر، إنْ لم تكن مئات المليارات التي أنفقتموها على التسلح خلال عقود، وبناء الترسانات العسكرية الضخمة، والجيوش الجرارة في خدمة قضية فلسطين التي تعتبرونها قضيتكم المركزية، فبالله عليكم قولوا لنا في خدمة من هي جيوشكم الجرارة، وترساناتكم المسلحة والقواعد العسكرية الأجنبية الجاثمة على أراضيكم؟! أهي لتحرير فلسطين، أم لتحرير «إسرائيل» من فلسطين؟!
لبعض العرب نقول بألم: سجلوا موقفاً موحداً مشرفاً يليق بكم وبأمتكم، به تكسبون احترام شعوب الأمة والعالم كلها، فلا تضيّعوا الفرصة وأنتم تشاهدون شعباً عربياً من لحمكم ودمكم يُباد بمجازر جماعيّة على إيدي قادة صهاينة مجرمين، متوحّشين، مدمني الحروب وقتلة الشعوب، آثرتم مغازلتهم والتطبيع معهم، وهم الذئاب الشاردة التي تتحيّن للانقضاض عليكم في ليلة ظلماء…
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق