من أي زاوية يجب النظر لقرار محكمة العدل الدولية؟
ناصر قنديل
بسرعة خرجت تحليلات تتناول القرار الصادر عن محكمة العدل الدولية، تنشر الإحباط حول القرار على خلفية عدم تضمّنه دعوة جيش الاحتلال الى الوقف الفوري لإطلاق النار، وغياب هذه الدعوة هو طبعاً نقص في قرار المحكمة بالقياس لقرارات مشابهة، منها ما صدر حول الحرب في أوكرانيا في آذار 2022، دعت فيه إلى وقف فوري للأعمال العسكرية، علماً أن استيفاء صفة جرائم الإبادة على حالة “إسرائيل” في غزة أقوى بما لا يقاس مقارنة بحالة روسيا في أوكرانيا، وعدد الضحايا المدنيين وفق التقديرات الأممية في أوكرانيا خلال قرابة سنتي حرب أقل من عشرة آلاف، بينما هو في غزة خلال مئة يوم أكثر من خمسة وعشرين ألفاً، ويكفي عدد الأطفال منهم دليلاً على مفهوم الإبادة، وحال الحصار والتجويع وتدمير المساكن والتهجير القسري، والتحريض على الإبادة من كبار مسؤولي الحكومة والجيش. ثم في حالة مسلمي الروهينغا في ميانمار، أصدرت المحكمة قرارها في كانون الثاني 2020، ولم يتضمّن القرار وقف الأعمال الحربية لأن جرائم الإبادة لا تتم بواسطة حرب، بل إجراءات قتل وتصفيات جماعية، وعدد الضحايا كل مرة بالمئات، تنتهي بعمليات تهجير من القرى والبلدات، وقد تضمّن القرار الذي أصدرته المحكمة دعوة لوقف عمليات القتل والتهجير.
السابقة الخاصة بحالة روسيا وأوكرانيا تقول إنه كان بمستطاع المحكمة تضمين قرارها دعوة لوقف الأعمال الحربية فوراً، ولكن المحكمة اختارت اعتماد نموذج قرارها الخاص بميانمار، فدعت إلى وقف كل العمليات التي يمكن أن تندرج تحت عنوان جرائم الإبادة، من تهجير وحصار وقتل جماعي وتدمير مساكن، وتخريب بنى تحتية، علماً أن الحرب هي أداة الإبادة الجماعية في غزة، وهي في غزة أشدّ وضوحاً وقوة بكثير من حالة أوكرانيا، لكن مؤيدي قرار المحكمة وفي طليعتهم جنوب أفريقيا صاحب الدعوى المقاومة، يقولون إن القرار تضمن بصورة غير مباشرة الدعوة لوقف الحرب، لأن تنفيذ طلبات المحكمة التي تضمنها القرار له ممرّ إلزامي هو وقف الأعمال الحربية.
السؤال المهم هنا هو من أي زاوية يجب أن ننظر إلى قرار المحكمة، هل من زاوية أنها كانت سوف تنهي الحرب الاجرامية بحق غزة، ونحن نعلم انه لو أصدرت قراراً بوقف الحرب، فإنه يحتاج لتنفيذه الى قرار يصدر عن مجلس الأمن الدولي بتطبيق أوامر المحكمة وفق الفصل السابع وما يتضمّنه من إجراءات تبدأ بالعقوبات وتصل الى التفويض بخطوات عسكرية ضد من يتمرّد على القرار. وهذا أمر معلوم أنه لن يحدث في ظل وجود الفيتو الأميركي الجاهز لحماية “إسرائيل”. ونحن من اليوم الأول للحرب نسمع التبريرات الأميركية لجرائم جيش الاحتلال، ونرى استخدام الفيتو لمنع وقف إطلاق النار، ونقرأ مواقف أميركية ترى أن الدعوى المقامة ضد حكومة الاحتلال بلا أساس، كما قال وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن يوم تقديم الدعوى أمام محكمة العدل الدولية من جانب جنوب أفريقيا، وقبل أن يطّلع على ملف الدعوى.
هناك الكثير من الكلام الانفعالي، بعضه بحسن نية وبعضه بسوء نية، والمفارقة أن كلاً منهما يبدأ من تسخيف أي قيمة للتوجه نحو المؤسسات الدولية، وينتهي بوصف القرار بالمؤامرة لمنح جيش الاحتلال مدة شهر لإكمال الإبادة بحق الشعب الفلسطيني في غزة، طالما أن المحكمة طلبت من حكومة الاحتلال إيداعها تقريراً عن إجراءاتها لتنفيذ قرار المحكمة خلال شهر، والمفارقة أن هؤلاء يجمعون بطريقة فريدة بين الحديث عن لا جدوى مخاطبة المؤسسات الدولية، وبين اعتبارها ذات قيمة عالية ودور خطير. وبعيداً عن هذا الكلام نحن معنيون بتقييم قرار المحكمة والنظر إليه من زاوية أن منصة المحكمة هي منبر لمواصلة خوض معركة الرواية الفلسطينية بوجه السردية الأميركية الإسرائيلية، ولكن أمام أعلى مرجع قانوني دولي، وبلغة الوقائع والوثائق والإثباتات والأدلة والمرافعات القانونية، لتتويج معركة السردية على الساحة الدولية التي بلغت مراحل متقدّمة في الرأي العام الغربي لصالح فلسطين وشعبها ومقاومتها، بحكم يقول إن فلسطين على حق وإن كيان الاحتلال إجرامي.
هذه هي القضية التي تطوّعت جنوب أفريقيا لخوضها، والخطر لم يكن في عدم إصدار المحكمة لقرار وقف النار، بل بالتهرّب من النظر بالدعوى بداعي عدم الاختصاص، كمثل القول إن الأدلة المقدّمة من جنوب أفريقيا يمكن تصنيفها “إثباتات محتملة على جرائم حرب لا جرم إبادة، وهي بالتالي خارج اختصاص المحكمة لجهة النظر في انتهاك اتفاقية منع جرائم الإبادة الجماعية التي قدمت الدعوى استناداً اليها”، وقد حدث ما يمثل انتصاراً لقضية فلسطين بقبول الدعوى واعتبار الإثباتات أدلة كافية للاشتباه بجرائم إبادة وبدء المحاكمة على أساسها ورد الطلب الإسرائيلي برفض الدعوى واعتباره في غير مكانه، وقبول الدعوى بالإجماع عملياً، يعني أن منصة الحراك القانوني والحقوقي لملاحقة كيان الاحتلال ورموزه، ومواصلة خوض المعركة الإعلامية والثقافية والسياسية تجد اليوم المنصة القانونية وبلغة القانون ذخيرة جديدة لها، لإكمال ما بدأ في معركة السردية خلال مئة يوم من الحرب، وتصبح الإجراءات التي دعا القرار كيان الاحتلال لاتخاذها شكلية لأنها لن تجد طريقها للتنفيذ، لكنها فضيحة تضاف الى الفضائح الأميركية في تعطيل المؤسسات الدولية عن أداء دورها عندما يتعلق الأمر بجرائم كيان الاحتلال، كجزء من المعركة السياسية والإعلامية والثقافية. ولهذا يجب الذهاب بقرار المحكمة الى مجلس الأمن الدولي، ليس للقول، “اصلاً لا جدوى من الرهان على المؤسسات الدولية”، وكأن هناك من يراهن على غير قوة المقاومة وصمود الشعب وتكامل أداء قوى محور المقاومة، لكن الرهان على المقاومة يرتبط عضوياً بإحاطتها بمناخ شعبي وسياسي يواصل تظهير ما رأيناه من تعاطف مع الحق الفلسطيني وإدانة للإجرام والتوحش الإسرائيلي، وصولاً لتحميل داعمي الاحتلال وفي طليعتهم الإدارة الأميركية مسؤولية الجرائم مع الكيان بالتكافل والتضامن.
ما قامت به جنوب أفريقيا عظيم وكبير ومهم، ويستحق التقدير والإكبار والاحترام، واستجابة المحكمة إعلان نجاح الرأي العام العالمي بإحداث نوع من التوازن بوجه منظومة الهيمنة الأميركية على المؤسسات الدولية القانونية لتسخيرها لحماية الجرائم وتبرئة المجرمين وحصر مهمتها بملاحقة من تريد واشنطن ملاحقتهم.