أبعِدوا الآلات الحاسبة عن الموازنة العامة
أحمد بهجة*
على مدى ثلاثة أيام بلياليها تبارى «نواب الأمة» أمام شاشات التلفزة ليقدّموا مطالعات إنشائية في جلسات يُفترض أنها لمناقشة الموازنة العامة للسنة الحالية.
ولكي لا نظلم أحداً نستثني عدداً محدوداً جداً من النواب، أما باقي الخطابات فأتت مكرّرة ومنقولة من سنة إلى سنة، مع أخطائها اللغوية، ولم تقدّم أيّ شيء مفيد، والغاية منها فقط الظهور أمام الناخبين بمظهر المتابعين والعارفين والمهتمّين بالمصلحة العامة.
أما عن الموازنة فحدّث ولا حرج، لأنها أبعد ما تكون عن موازنة عامة للدولة، بل هي أشبه بدفتر حسابات عتيق على الطريقة البدائية، حيث تُسجَّل المداخيل في الخانات المخصصة لها، وفي المقابل تُقيَّد المصاريف في خاناتها، ثم نلجأ إلى الآلات الحاسبة لنجري عمليات الجمع والطرح، وأحياناً الضرب والقسمة، لتظهر لنا بعد ذلك أرقام الربح أو الخسارة…
هذا الأمر لا يجوز استخدامه حتى في دكانة الحي، فكيف إذا كنا نتحدث عن موازنة عامة للدولة التي يُفترض أنها مسؤولة عن مجتمع بأسره بكلّ ما في هذا المجتمع من بشر ومقوّمات وبُنىً تحتية وفوقية لا بدّ أن تأخذها الموازنة بعين الاعتبار؟
وتحديداً في بلد مثل لبنان وما يعيشه من أزمات متراكمة ومستحكمة بكلّ المفاصل الحيوية، حيث ينهار كلّ شيء ويتدهور حتى وصلنا إلى الهاوية التي ربما سنجد تحتها هاوية أعمق منها خاصة أنّ مناقشات الموازنة العامة في مجلس النواب والردّود الحكومية عليها أظهرت أننا مستمرون بالحفر لأنفسنا بدلاً من أن نفكر بطريقة مختلفة تجعلنا نبدأ رحلة الخروج من الهاوية والصعود باتجاه سطح الأرض.
هذا إضافة إلى التحديات التي تواجهنا هذه الأيام في ما يتعلق بأوضاع المنطقة كلها والحرب المفتوحة جنوباً ضدّ العدو الصهيوني ومَن معه وخلفه، وما تفرضه من وقائع لا بدّ من التعامل معها ومعالجتها بشكل متكامل ما بين الدولة والمقاومة والناس… وهذا بحدّ ذاته يفرض علينا اتخاذ إجراءات استثنائية لا سيما على صعيد الاهتمام برعاية أبناء المنطقة الحدودية، سواء الذين نزحوا منها أو الصامدين في أرضهم وبيوتهم…
هنا نعود إلى الموازنة العامة التي لم يرِد فيها أيّ شيء في هذا الخصوص، كأنّ الحرب واقعة في بلد آخر! وإذا قال أيّ أحد إنّ الدولة اللبنانية مفلسة ولا تستطيع تحمّل أيّ أعباء، نقول إنّ الأمر يمكن معالجته لكن ما نحتاج إليه أولاً هو تغيير نمط التفكير وإحداث نقلة نوعية في طريقة التعاطي مع الأمور الاقتصادية والمالية في البلد.
لأننا رغم كلّ ما نواجهه من مصاعب لا تزال أمامنا فرص كبيرة جداً يمكننا أن نستفيد منها في أكثر من اتجاه، وعلى سبيل المثال لا الحصر أمامنا منذ زمن عروض كثيرة للعديد من المشاريع الاستثمارية المفيدة جداً، وهذه العروض لا تزال سارية المفعول، وما علينا فعله هو اتخاذ القرار الشجاع الذي لا مفرّ منه إذا أردنا بناء بلدنا وتحريك اقتصادنا وإيجاد فرص العمل الكافية لأجيالنا الجديدة.
وعلى سبيل المثال لا الحصر سوف نورد أمثلة عن ثلاثة مشاريع فقط، مع العلم أنّ هناك الكثير غيرها…
أولاً: العرض الإيراني ببناء معملين لإنتاج الكهرباء في الجنوب والشمال بقدرة ألفي ميغاواط، إضافة إلى توفير الفيول مجاناً لتشغيل هذين المعملين بعد إنجازهما في غضون ستة إلى ثمانية أشهر.
ثانياً: العرض الصيني بإنشاء سكك الحديد بين الجنوب والشمال وبين بيروت والمصنع، وتنفيذ مشروع نفق حمانا ـ شتورة، وما يعنيه للناس إنجاز هذا المشروع، خاصة أننا نرى بأمّ العين ما يحصل على الطرقات من كوارث في هذا الطقس العاصف.
ثالثاً: العرض الروسي بإنشاء مصفاة لتكرير النفط، في غضون 18 شهراً، فيما يستطيع لبنان الاستفادة فور بدء تنفيذ المشروع من كميات كبيرة من الفيول الروسي المجاني لمعامل الكهرباء القائمة حالياً، والتي تستطيع بحالتها الحاضرة أن توفر تغذية كهربائية لنحو 14 ساعة يومياً.
هذه المشاريع وغيرها كثير هي التي يحتاجها اللبنانيون فعلاً، لأنها تحرّك عجلة الاقتصاد وتخرجنا من هذا الجمود الذي نعاني منه حالياً، كما توفر هذه المشاريع عدداً غير قليل من فرص العمل التي نحن بأمسّ الحاجة إليها، إضافة إلى أنها تؤمّن الحلول المستدامة لأزمات معقدة عانى ويعاني منها بلدنا وشعبنا منذ سنوات طويلة، وهي تكلف الناس كما الخزينة العامة الكثير من الأموال التي تذهب هدراً ويمكن توفيرها والاستفادة منها لتلبية متطلبات أخرى أساسية، خاصة في المجال الصحي حيث تزداد المعاناة والحاجة إلى الطبابة والدواء والاستشفاء، كما يمكن توظيف العائدات الهامة من هذه المشاريع لإيجاد حلول جذرية لعدد كبير من الأزمات المعقدة والمتراكمة فوق رؤوس اللبنانيين وأوّلها قضية الودائع المصرفية التي تبخّرت بفعل فاعل معروف لدى الجميع، لكن المودعين يريدون استعادة أموالهم أولاً وبعد ذلك تتمّ محاسبة ومحاكمة المسؤولين عن ضياعها، إذا كان ممكناً في هذا البلد حصول محاسبة ومحاكمة للفاسدين وما أكثرهم…
ويمكن للمشاريع الوارد ذكرها آنفاً أن تأتي من خارج الموازنة لأنها لا تحتاج إلى تمويل من الخزينة العامة، فقط تحتاج إلى قرار من مجلس الوزراء، وفي حال تأمّن هذا القرار فإنّ المشاريع جاهزة للانطلاق بها على الفور، خاصة أنها مدروسة من قبل الوزارات المعنية وبدء التنفيذ متيسّر في غضون فترة بسيطة جداً…
الطابة إذن في ملعب رئيس الحكومة الذي يمكنه القول للنواب: «حلوا عنا» باعتبار أنهم مسؤولون عن عدم انتخاب رئيس للجمهورية منذ 15 شهراً، لكن الـ «نجيب» لا يستطيع القول للناس أن يحلوا عنه، بل على العكس تماماً الناس تقول له «حلّ عنا» لأنك تتحمّل شخصياً المسؤولية الكاملة عن عدم تنفيذ المشاريع الواردة آنفاً، فقط بسبب خوفك على مصالحك الخاصة في الخارج، وهذا لا يتناسب أبداً مع المصلحة الوطنية العليا…
*خبير مالي واقتصادي