«أنا أقاوم… إذاً أنا موجود»
نوال عباسي
قرار محكمة العدل الدولية بقبول الدعوى التي أثارتها دولة جنوب أفريقيا ضد الكيان بتهمة إرتكاب إبادة جماعية قد يعتبره البعض غير كاف لتغيير المعادلة، ولكن لا يمكن الإنكار أنه جزء هام من تغيير هذه المعادلة، وجاء في سياق إسقاط السردية الصهيونية. ومحكمة لاهاي تعتبر جبهة إسناد قانونية لباقي جبهات المقاومة الميدانية والإعلامية والاقتصادية بل أكثر من ذلك هذا القرار يجب استثماره وإخراجه من أروقة محكمة لاهاي إلى محكمة التاريخ الكبرى وهي حتماً منصفة.
التاريخ، بين خبر دقيق ونظر وتحقيق، يؤكد لنا أنّ الكيان اللقيط المؤقت ليس استثناءً بل هو امتداد وظيفي للغرب المتدثر بالحداثة، وأنّ الإبادة الجماعية ليست طارئاً عليه بل هي متأصّلة فيه ومرافقة له في كلّ محطاته منذ كريستوفر كولومبوس «الأب الروحي لتجارة العبيد» و»عالمه الجديد» الذي عمّده بدماء آلاف الأبرياء من السكان الأصليين، مروراً بالفظاعات التي ارتكبها التاج البريطاني المرصّع بثروات المستعمرات المنهوبة، وصولاً الى المجازر التي اقترفها الرجل الأوروبي الأبيض بيده المخضّبة بدماء ملايين الأفارقة في الجزائر وليبيا وجنوب أفريقيا وتشاد وناميبيا والكونغو (أرض الأيادي المقطوعة)…
ما حدث طيلة ما يقارب ستة قرون من جرائم إبادة ونهب للخيرات وتهريب للآثار، لم يعد في استطاعة الغرب إخفاؤه او التبرّؤ منه، بل قد تتعاظم أزمة ضميره المستتر، فتحريف التاريخ وتمجيد “البطولات» و”الانتصارات”، واعتبار ايّ مقاومة له «بربرية أو همجية أو إرهاباً» لن يجدي نفعاً أمام يقظة وعي الشعوب التي سوف تعيد كتابة تاريخها بأقلامها المنغمسة في الأحمر القاني.
المؤرّخ الإسرائيلي إيلان بابيه في كتابه «التطهير العرقي في فلسطين» يقول انّ مقولة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض لم تكن استنتاجاً بل كانت مهمة للإنجاز، وخلص إلى حقيقة أنّ الفكر الصهيوني يستمدّ جذوره من المنطق العنصري الاستعماري الأوروبي، وهو يخدم مصالح الهيمنة على شعوب المنطقة.
هذا الغرب أصبح عاجزاً عن إخفاء جرائمه المروّعة التي يعجّ بها سجلّه اللاإنساني ولا خلاص له إلا بالاعتراف والاعتذار عن جرائمه السابقة والتعويض عنها.
من بركات طوفان الأقصى أنه فتح أعين الغافلين على تمركز «الحضارة الغربية» على التوحّش وتهافت خطابها التنويري
وتهالك بنيتها المعرفية العنصرية لقيامها على خلفية إقصائية لا تعبّر عن العالم كما هو، في تعدّده واختلافه، بل فقط عن الرؤية الغربية فيه.
وتجسّد هذا الإقصاء في الإبادة المعرفيّة التي رافقت مجازره والتي انطلقت مع الإحراق المنهجي للمكتبات الإسلامية، خصوصاً مكتبة غرناطة ومكتبة قرطبة التي كانت تحوي أزيَد من نصف مليون كتاب إبان سقوط الأندلس.
ثم تواصلت مع كوجيتو الأنا الغربية المتورّمة التي افتتحت مرحلة الحداثة المنسوبة الى ديكارت، رغم أنّ الغزالي كان سبّاقاً في طرح فكرة الشك المنهجي للوصول إلى الحقيقة التي رآها الطريق الموصلة إلى الفكرة التي يبحث عنها بهدف الاقتناع واليقين، وهو القائل «الشك أولى مراتب اليقين» ورغم انّ أشعار غوته تبوح بأسرار حافظ الشيرازي، ورغم أنّ رسالة الغفران مضمونة الوصول في كوميديا دانتي الإلهية، ورغم أنّ كلام زرادشت نطقت به أطروحات نيتشه.
فهل نعتبر هذا محض صدفة ام مجرد توارد خواطر بين الشرق والغرب أم إبادة مجتمعية معرفية ونهب لموروث فكري وتنمّر حضاري ظهر جليّاً في مقولة هيغل بأنّ «القدر المحتوم للامبرطوريات الآسيوية أن تخضع للأوروبيين وسوف تضطر الصين في يوم من الأيام أن تستسلم لهذا المصير»، وفي قول كانط متحدثاً عن شعوب أفريقيا «هم لا يثيرون في النفس الإنسانيّة أيًّا من المشاعر الراقية، وهذا يجعل التخلّص منهم أمرًا لا تهتزّ له المشاعر الإنسانيّة، ومن ثمّ لا يمكن تجريم ما يفعله المستعمر الأوروبيّ في أفريقيا».
هذا كانط فيلسوف القيمة الأخلاقية، فهل ما زال هناك من يستغرب تصريح غالانت عندما قال انه يحارب حيوانات بشرية. بين كانط وغالانت المسافة صفر.
من بركات الطوفان الوصول إلى محاكمة الكيان ومن بركاته أيضاً محاكمة الغرب لممارسته التطهير العرقي والتطهير المعرفي ضد شعوب الشرق لنتجاوز بذلك حالة الهيمنة الاستعمارية المعرفية المتمركزة حول الغرب وننتقل إلى نموذج يعترف بالتعدد والاختلاف ويعيد للشرق إشعاعه.
وإذا كان الغرب افتتح مرحلة الحداثة بالكوجيتو «أنا أُبيد اذاً أنا موجود»، فإنّ الشرق يفتتح مرحلة ما بعد الصهيونية بالكوجيتو «أنا أقاوم… إذا أنا موجود».
وهذا أيضاً من بركات نُصرة غزة…