حروب الإشغال في الخطوط الخلفيّة… انتبهوا للفتن
ناصر قنديل
– فيما العيون شاخصة نحو التهديد الأميركي بالردّ على الاستهداف الذي تعرّضت له القواعد الأميركية وأسفر في آخر العمليات عن مقتل وجرح العشرات من الجنود الأميركيين، يبدو ذلك نوعاً من الخداع البصريّ، لأن الأميركي والإسرائيلي يتحدثان كثيراً عن الحرب وعن التسوية وليس في جعبتهما خيار حرب ولا خيار تسوية، لذلك تصبح وظيفة الحديث عن الحرب ومثله الحديث عن التسوية، مختلفة عن الوظيفة التقليدية وهي التمهيد للحرب أو التمهيد للتسوية، بينما الهدف هذه المرة هو إثارة الحديث عن الحرب وإثارة الحديث عن التسوية.
– يخرج تقرير في عدد من الصحف الأميركية يتحدّث عن بدء نقاش جدي حول خيار الانسحاب من سورية يشترك فيه البيت الأبيض مع وزارتي الخارجية والدفاع. وهو كلام صحيح، لكن القرار التنفيذي ليس على الطاولة. ووظيفة الكلام ليست تهيئة الرأي العام الأميركي للقرار، بل إثارة النقاش في صفوف مَن يفترض أنهم «الأعداء» حول فرضية الانسحاب. وبالتوازي تخرج تصريحات من وزارتي الخارجية والدفاع تنفي نيات الانسحاب، وهي لا تكذب لأن ما يجري هو نقاش الخيارات، لكن بلورة الخيارات تتوقف على النتائج التي يتركها الإعلان عن النيات في صفوف «الأعداء»، والمقصود بالنتائج ليس العروض التفاوضية التي يريد الأميركي استدراجها فقط، بل الفوضى التي يريد زرع بذورها داخل صفوف أعدائه وإرباك تحالفاتهم وإشغالها بالفرضيات والعائدات والأثمان. ويأتي النفي بهدف أن يثير ارتباكاً معاكساً، وأن يطمئن الحلفاء الذين أربكهم الحديث عن الانسحاب، والأميركي لا يهتم كثيراً لحلفائه، لكنه سوف يبقى يستعملهم طالما أن قواته باقية.
– في الحديث عن الحرب والتهديد بها، سواء ما يلوّح الإسرائيلي بفعله على جبهة لبنان، أو ما يهدّد به الأميركي على مستوى المنطقة، كل شيء يقول إن الحرب ليست على جدول الأعمال، ولإنها تفوق طاقة الإسرائيلي تجاه لبنان، وتفوق طاقة الأميركي على مستوى المنطقة، لكن الحديث عن الحرب يستهدف تقديم منصة مزدوجة، هي من جهة منصة للحرب النفسية لإثارة القلق والذعر في أوساط لصيقة بمن يصفهم الأميركي والإسرائيلي بـ «الأعداء»، سواء على مستوى البيئات الشعبية أو الإعلامية أو أصحاب المصالح الاقتصادية، أو القوى السياسية والشخصيات المعنوية، بهدف إثارة البلبلة والقلق في صفوفها واستثمار حضورها للضغط على معسكر «الأعداء»، بخلق مناخ الحرب أملاً باستدراج عروض تخفيض مستوى التصعيد، تفادياً للحرب، وبالتوازي تقديم منصة لقوى وشخصيات مماثلة لكن على ضفة مقابلة لمعسكر «الأعداء»، بعضها لأسباب سلطوية وبعضها لأسباب طائفية أو مذهبية، وبعضها بسبب التبعية المالية او الارتباط المؤسسي بمنظومات مهمتها إثارة الحرب النفسية، لتتولى هذه الضفة بكاملها الانطلاق بشن حملات إعلامية تستهدف التشكيك بصواب خيارات معسكر من تراهم واشنطن وتل أبيب أنهم «الأعداء»، وترى أن خصومهم جزء من جبهة لها عدو مشترك وتتكوّن من الذين يمكن توظيفهم واستخدامهم بعلمهم أو بدون علمهم.
– في الحديث عن التسويات، سواء على جبهة لبنان بمبادرات تتحدّث عن إمكانية حل القضايا العالقة من حقوق لبنان الحدودية من الناقورة إلى مزارع شبعا، أو على جبهة فلسطين بالحديث عن الدولة الفلسطينيّة وحل الدولتين، فإن الأميركي والإسرائيلي ليسا جديين بالسير بأي من المبادرتين، بقدر ما يسعى إلى استنهاض القوى اللبنانية والفلسطينية التي يمكن أن تنتظم خارج من يصفهم الأميركي والإسرائيلي بـ «الأعداء»، ويبدون الاستعداد للتعاون أملاً بدور، ويشكلون مصدر ضغط وإرباك لمعسكر «الأعداء».
– في هذا السياق يجري طرح صيغة تفاوضية لغزة تتضمن هدنة وتبادلاً، ويراد لها ان تتحول الى موضوع انقسام في ضوء حالة إنسانية شديدة القسوة، ويمكن للمقاومة أن تجد صيغة تجمع بين الطروحات التفاوضية والهدف المحدد بوقف شامل ونهائيّ لإطلاق النار، وقطع الطريق على هذا التلاعب المدروس من الجانبين الأميركي والإسرائيلي. والمقاومة في غزة هي الجهة المؤهلة لتقدير الأصلح والأنسب، وبين يديها سلاحها وأعداد من الأسرى ومستويات بينهم تستطيع أن تديرها وفق الرؤية التي ترى أنها الأصلح والأنسب. ولا يجوز أن يشكل أحد من موقع ادعاء الحرص مصدر ضغط على المقاومة في غزة، لتبني خيارات ومواقف والدعوة للسير بها.
– في هذا السياق أيضاً وبعد العملية الأخيرة للمقاومة العراقية ضد القوات الأميركية، يطرح الأميركيون معادلة التفاوض مع الحكومة العراقية على الطاولة، مقابل هدنة مع المقاومة، تمتدّ لشهر أو شهرين ينجز خلالها الانسحاب، وتعلن قوى في المقاومة تعليق عملياتها. والأصح هنا هو أن المقاومة في العراق هي الأعلم بالأصلح والأنسب، لأن سلاحها معها، وهي في الميدان وتراقب مسار المفاوضات ونتائجها ومصداقية ما يدور خلالها نحو برمجة جدية للانسحاب.
– المهم الآن هو التنبّه لمخاطر الفتن وخطط الإشغال والإرباك، وأول المعنيين هم المقاومون في فلسطين والعراق، سواء لاتخاذ مواقف موحّدة أو تقبّل تعدّد الخيارات وإدارتها بذكاء بما يجعله فرصة لا مصدر قلق وانقسام.