هل يعيد التاريخ نفسه؟
نمر أبي ديب
عكست جلسات الموازنة المتتالية عمق الانقسام اللبناني اللبناني، كما الحجم الحقيقي للهوة السياسية الفاصلة ما بين مكونات الوطن الواحد، فقد تخطت مجمل المواقف السياسية المعلنة تحت قبة البرلمان سقف الشعبوية إلى محطات أخرى، أعادت من حيث النبرة التصعيدية التي اعتمدها البعض إلى جانب «الطروحات العبثية»، مراحل سابقة بلغتها الساحة اللبنانية نتيجة الانقسام العمودي القائم والمستمرّ حول «هوية لبنان» وسياسته الخارجية، ما يطرح العديد من التساؤلات السياسية والدستورية، التي تمحورت في مجملها حول المادة الإنقاذية، التي يُفترض أن توفرها استثنائية النتائج المرجوة، في قراءة بعض «المهللين والمطبّلين» للخطاب العبثي، الذي افتقد في العديد من جوانبة للمسؤولية الوطنية القائمة في الأساس على أولوية بذل الجهود، وتوفير الإمكانات اللازمة والسبل الملائمة لانتخاب رئيس للجمهورية بعيداً عن الكيدية السياسية وطرح النظريات التي باتت تفتقد الأدنى مقومات الترجمة والصياغة الرئاسية.
في سياقٍ متصل عكست عبثية الخطاب حقيقة الموقف السياسي القائم على «فراغ تكتيكي» غير معلن الأهداف والنتائج، في مرحلة «فصل وجودي»، تخللتها بداية حراك غير مكشوف الأبعاد، كما الخلفيات السياسية والقانونية ما أعاد بالشكل النسبي إلى الواجهة كما الوجهة اللبنانية «مراحل سياسية ذات طابع انقلابي»، تضمّنت استثنائية «الخطاب المعلَّب» القائم على استراتيجية الاتهام الجاهز، ما أعاد طرح العديد من علامات الاستفهام السياسية، الأمنية، وحتى القانونية، والحديث يشمل الجزء المتعلق بأحكام الدستور مع ما يتضمّنه هذا الجزء من اجتهادات قانونية، مرفقة بتعديل وتفسير مجمل المواد الخلافية.
ما تقدّم يفتح باب المساءلة القانونية وينقل النقاش إلى مستوى الرهان على قيام «عقد سياسي جديد» أو مؤتمر تأسيسي، نادت به مرجعيات لبنانية عديدة سراً وجهاراً، تحت مسمّيات سياسية وأخرى تسويقية أبرزها: العمل ضمن مرحلة انتقالية تضمن عبوراً كاملاً للدولة إلى لبنان الجديد، الذي يريد البعض من خلاله تحقيق مكتسبات سياسية أيضاً استراتيجية تشمل إلى جانب هوية لبنان أمن الحدودين، الأولى مع سورية والثانية مع فلسطين المحتلة، بالتالي هل دخل «لبنان» مرحلة التنفيذ الفعلي لأجندات خارجية محكوم بتوازنات دقيقة، ومساحات نفوذ لبنانية خاضعة بشكل او بآخر للمظلات الطائفية؟
انطلاقاً مما تقدَّم يتوجب لا بل يفترض على أصحاب المواقف العبثية تقديم مبررات عملية تفيد التساؤل في الدرجة الأولى، وتنهي عملية الافتراض السياسي المبني على تجارب سابقة في أزمنة مصيرية، وهنا تجدر الإشارة إلى نواح عديدة من بينها…
أولاً: انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية لا يتقاطع تحت أي ظرف، وضمن أيّ متغيّرات، مع جملة «المواقف العبثية» التي تمتهن وتفيد تحت «مُسمى المعارضة»، سياسات التعطيل التي تساوت فيها القوى اللبنانية المانحة على مستوى شغور المؤسسات حجة التعطيل، مع العنصر المعطل.
ثانياً: الخطاب العبثي لا يتوافق مع السياسات الإنقاذية التي تتطلبها فكرة قيام الدولة، «الدولة القادرة والقوية»، إنما مع «السياسة الإلغائية» التي تكرّس عن سابق تصوّر وتصميم مبدأ «التصادم الداخلي»، كما تذهب في مجمل نواحي الخلاف والاختلاف السياسي والأمني والعسكري والاقتصادي، إلى حدود الخلاف «الدائم والمزمن»، تحت عنوان رابح وخاسر، أيّ إلى تموضعات ميدانية سياسية كانت أم أمنية وعسكرية، لا تلحظها أو تشملها التسويات الداخلية.
ثالثاً: تدحرج المواقف السلبية داخل البرلمان وخارجه، تقلُّب لبناني في الخلافات الداخلية على صفيح سياسي فاتر، وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ مفاتيح التمدّد والانتقال السياسي «من مراحل الصفيح الفاتر إلى مراحل الصفيح الساخن»، مع ما يمكن أن يستتبعه في مراحل لاحقة من غليان ليس في متناول أحد ولا وفق حسابات أو رغبات أحد، بل رهن التطورات المتسارعة على الساحة اللبنانية والخارجية، أيضاً رهن التدحرج السياسي الغير مرتبط بسقف ميداني، أو حتى «ضوابط جغرافية» تسمح للبعض التحكم بمتدرّجات التدحرج السلبي أو العمل على إنهاء مفاعيله الكارثية على الدولة والشعب.
في المباشر… يجوز التساؤل كما المساءلة السياسية عن الأهداف المرجوة من عبثية الخطاب السياسي الذي بدأ يتخذ «منحى تصعيدياً غير مبرّر، بحجة انتخاب الرئيس» ولا حتى بتخطي الأزمة اللبنانية، التي دخلت مرحلة ما يشبه الفراغ الجامع، والجدير في الذكر أنّ الخطاب السياسي غير المبني على منطلقات انقاذية يفاقم الأزمة الداخلية ويعمل على تضخيم مسبباتها السياسية كما عناصرها المكونة وحتى المتمّمة .
يقف لبنان اليوم بمجمل مقدراته السياسية ومكوناته الحزبية على منصات التجاذب السياسي، رغم التحديات الكثيرة والاستحقاقات الداهمة التي تنتظر لبنان وما بين الخطاب المتشنّج ومبدأ قيام أو بناء الدولة مساحة باتت فاصلة ما بين نوايا ومجمل الأهداف غير معلنة، بالتالي ما ينتظر لبنان اليوم جولة جديدة في فراغ المشهد السياسي التي لم ولن ترتقي فيه التجربة إلى مستوى النجاح في ظلّ الانحسار الكبير للدور السياسي وحتى الأمني كما العسكري، التي كانت تقدّمه الأحادية الأميركية على مسرح المنطقة.