حياد لبنان في الحرب مستحيل… اشتراكه في المقاومة محتوم
د. عصام نعمان*
قال بطريرك المسيحيين الموارنة الكاردينال بشارة الراعي في ندوة بحثية “إنّ حياد لبنان ليس فكرة جديدة أو مشروعاً مقترحاً بل هو عودة الى صميم جوهر الهوية اللبنانية كما كانت عند نشأة لبنان سنة 1920”، مشيراً إلى “انّ لبنان منذ توقيعه “اتفاق القاهرة” سنة 1969 وكلّ ما تبعه من حروب حتى يومنا، أصيب في صميم هذه الهوية، وهو بالتالي مريض، علاجه المفيد العودة الى الحياد (…) لكن الجرثومة الأساسية المسبّبة لحروب لبنان هي الانحياز العقائدي والنضالي والعسكري الى الصراعات الخارجية”. أضاف مؤكداً أنه “من غير الممكن ان يكون لبنان حيادياً إزاء ثلاثة: إزاء إسرائيل، وإزاء الإجماع العربي، والتمييز بين الحق والباطل”.
لا يسع أيّ لبناني مخلص إلاّ أن يتفق مع البطريرك الراعي في دعوته الى “توحيد الجهود لتعزيز سيادة الدولة اللبنانية على كلّ أراضيها، ورفض أيّ تدخل خارجي في الشؤون الداخلية والخارجية مباشرةً او بالواسطة، ومن أجل قيام دولة القانون والمؤسسات وإجراء الإصلاحات البنيوية”. لكن لا يسع المواطن المخلص أيضاً إلاّ أن يُبدي بعض الملاحظات الجوهريّة على ما قاله البطريرك وما ينطوي عليه من مخاطر وتحدّيات تستوجب مواجهة وطنية نهضوية:
* لا يجهل غبطة البطريرك أنّ ظروف “نشأة” لبنان سنة 1920 مغايرة لما هو عليه حاليّاً. ذلك أنّ نشأته كانت بقرارٍ من فرنسا بما هي دولة منتدَبة (أو مستعمِرة) وليس نتيجةَ نضالٍ أو استفتاء شعبي، وأنّ موازين القوى في المنطقة آنذاك هي غير ما هي عليه اليوم الأمر الذي ينعكس سلباً، في غالب الأحيان، على إرادة شعبه وحقوقه ومصالحه.
* إذا كانت حكومة الاستقلال سنة 1943 أعلنت التزام لبنان “الحياد بين الشرق والغرب”، فإنّ الحكومات المتعاقبة كما الأطراف السياسية المتصارعة لم تلتزم غالباً تلك المقولة. ألم تستحضر الحكومة في عهد الرئيس كميل شمعون قوات أميركية الى البلاد لمواجهة فريق كبير من الشعب كان مؤيداً للانقلاب العسكري والشعبي في العراق ضدّ النظام الملكي وحكومته الموالية لحلف بغداد؟
* إذا كانت “أعمال ميثاق جامعة الدول العربية اعتبرت لبنان دولةً مساندة وليس دولة مواجهة”، فإنها باركت مشاركة لبنان جيوش مصر والأردن وسورية والعراق تصدّيها (الذي كان ضعيفاً) للعصابات الصهيونية بعد سيطرتها على قسم كبير من أراضي فلسطين وطرد شعبها منها.
* إذا كان لبنان “منذ توقيعه “اتفاق القاهرة” سنة 1969 وكل ما تبعه من حروب حتى يومنا أصيب في صميم هذه الهوية”، فإنّ مجلس النواب في عهد الرئيس شارل حلو أجاز رسمياً هذا الاتفاق مجارياً بذلك دعم أكثرية وازنة من الشعب اللبناني له آنذاك.
* قد تكون “الجرثومة الأساسية المسبّبة لحروب لبنان هي الانحياز العقائدي والعسكري الى الصراعات الخارجية”، لكنها ليست المسبّب الوحيد، ذلك أنّ معظم مكوّنات لبنان الطائفية والسياسية مارست انحيازاً عقائدياً ونضالياً وعسكرياً الى صراعاتٍ خارجية طوال تاريخ لبنان المعاصر، فهل يجوز لغبطة البطريرك أو لغيره ان يدين بعض تلك المكوّنات ويبرّئ بعضها الآخر؟
* يحرص بعض الأحزاب من لون طائفي معيّن على معارضة حزب الله لقيامه بمقاومة “إسرائيل” ميدانياً، لا سيما بعد اعتداءاتها الأخيرة على القرى اللبنانية الحدودية بدعوى أنه لولا قيامه بمساندة المقاومة الفلسطينية في غزة غداة ملحمة طوفان الأقصى في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 لما قامت “إسرائيل” بمهاجمة “قواعده” في القرى الحدودية. ولإنعاش ذاكرة هؤلاء المعارضين، أذكّرهم ببعض حروب “إسرائيل” غير المسبوقة بأيّ “اعتداء” من لبنان عليها:
ـ قيام “إسرائيل” بضرب مطار بيروت سنة 1969 وتدمير معظم طائرات لبنان المدنية.
ـ الاعتداء على لبنان براً وجواً بعد اندلاع حرب 1973 ضد “إسرائيل” مع انه لم يكن مشاركاً فيها الى جانب مصر وسورية.
ـ شنُّ “إسرائيل” حرباً على لبنان سنة 1982 وصلت قواتها أثناءها الى بيروت بدعوى أن إحدى فصائل المقاومة (غير المنضوية في منظمة التحرير الفلسطينية) قامت بعملية (فاشلة) ضدّ إحدى المستعمرات الإسرائيلية في شمال فلسطين المحتلة.
ـ شنّت “إسرائيل” حرباً على لبنان سنة 2006 بدعوى الردّ على حزب الله لقيامه بخطف 3 جنود إسرائيليين لمبادلتهم بأسرى لبنانيّين لدى العدو.
ـ قبل كلّ الأدلة والشواهد السالفة الذكر وبعدها، أشيرُ الى عقيدة تراثية “إسرائيلية” في الاعتداء على لبنان وغيره من الدول المحيطة بفلسطين المحتلة قوامها العمل سياسياً وعسكرياً بموجب عقيدة توراتية يلخصها ذلك الشعار المنقوش على مدخل الكنيست (البرلمان) مفاده: “ملكك يا إسرائيل من الفرات الى النيل”. وقد ترجم مؤسّس كيان العدو ديفيد بن غوريون هذا الشعار عملياً بقوله “إنّ إسرائيل تموت إذا توقفت عن التوسّع”.
ـ غير أنّ أبلغ الأدلة على عدوانية “إسرائيل” جاء على لسان وزير حربها يوآف غالنت خلال جولته الأخيرة على مستعمرات العدو الكائنة مقابل الحدود اللبنانية، فقد قال بالحرف: “إذا أعتقد حزب الله انه عندما يكون هناك وقف لإطلاق النار في الجنوب (قطاع غزة) سيوقف هو إطلاق النار ونحن سنفعل ذلك أيضاً، فإنه بذلك يرتكب خطأً كبيراً، فطالما أننا لم نصل إلى وضع يمكن فيه إعادة سكان الشمال بأمان فلن نتوقف. وعندما نصل الى ذلك، إما من خلال تسوية او بطريقة عسكرية، سنكون قادرين على ان نكون مطمئنين”. المغزى الواجب استخلاصه من تصريح غالنت انه سواء كان لبنان محايداً او حتى مستسلماً لـِ”إسرائيل” في الحرب، فإنّ ذلك لن يثنيها عن الاعتداء عليه.
ـ إلى ذلك، لا يكفي أن يعلن لبنان حياده ليصبح بمأمن من أيّ حرب او اعتداء او تدخل خارجي. فالحياد يلزمه إيمان والتزام طرفين او أكثر به وإلاّ يبقى نظرياً وواهياً. ألم يتضح بعد لكلّ الداعين الى الحياد أن لا حياد من طرف “إسرائيل” إزاءنا، فلا مندوحة إزاء تصميمها على العدوان إلاّ أن يصمّم لبنان، حكومةً وشعباً، على الدفاع عن نفسه باشتراكه في مقاومة العدوان الصهيوني بالطريقة التي يراها مناسبة.
ـ في ضوء كلّ ما تقدّم بيانه يتضح أنّ حياد لبنان في الحرب المستمرة التي يشنّها العدو الصهيوني على الفلسطينيين وسائر العرب مستحيل، وأنّ قيامه بالدفاع عن نفسه واشتراكه في مقاومته أمران محتومان.
لعلّ غبطة البطريرك وكلّ ذي بصرٍ وبصيرة يعلم أنّ الدفاع عن النفس والإسهام في المقاومة يتطلبان وجود دولة مستقلة وسيّدة ينتظمها حكم القانون ويصونها جيش جيّد التسليح والتدريب، توجهه عقيدةٌ قتالية وطنية.
كل هذه المتطلبات غير متوافرة في كياننا الهزيل الذي تمزقه الخلافات والاختلافات والفساد المتجذّر في اهل السلطة.. فما العمل؟
ثمة أمر آخر مطلوب لذاته وكشرط لقيام الدولة الوطنية القوية والسيّدة. إنه التوافق على هوية وطنية واحدة قوامها الالتزام بوطن حر مبني على أساس ميثاق حقوق الإنسان، والديمقراطية، والعدالة، والمصالح المشتركة، والمصير الواحد.
كُلّ ذلك يتطلّب حركة وطنية نهضوية عابرة للطوائف والمناطق والمشارب الفكرية، قادرة بنَفَس طويل وإرادة صلبة على تخليق وتربية جيل جديد يتولّى بلا إبطاء تحقيق الأهداف والمهام سالفة الذكر.
*نائب ووزير سابق
[email protected]