مقالات وآراء

لعنة التمدّد الاستراتيجي الزائد ومأزق الخيارات…

‬ نوال عباسي

بعد طوفان الأقصى أصبح الشرق، الذي تعتبره أميركا من موقعها «أوسط»، على عتَـبة تحوّلات تاريخية كبرى، فبعد أن تعطّلت مسيرة التطبيع، ولم تتوقف، وفتحت جبهات المقاومة النار على الأميركي بصفته الراعي الرسمي للكيان اللقيط المؤقت تطورت الأحداث وتغيّرت المعادلات، وكلما تقدّم الزمن كلما أصبح الأميركي أعجز عن إنجاح عملية إعادة الضبط واسترجاع الهيمنة المفقودة والمهدورة على عتبات الشرق وضفافه.
بعد الطوفان توالت تصريحات أميركا وتهديدها بعدم رغبتها في توسيع الحرب وكأنها تقول لمن يهمّه الأمر عليك أن تكتفي بالفرجة على الكيان وهو يمارس طقوس الإبادة الجماعية على أرض كنعان دون أن تحرّك البنان. لتعود بعد تصاعد وتيرة الصراع وتبرّر اعتداءاتها المتكررة بحجة تقليم أظافر إيران ولا يذهبنّ بكم الظن، وليس كلّ الظن إثم، إلى أنها تخفّف من عبء الكيان.
تعويم المصطلحات وعربدة المفاهيم لم تنقذها من التورّط الاستراتيجي ومأزق الخيارات ولم يبق أمام العم سام، التاجر والجزار، سوى استعراض هزلي لعضلاته الهزيلة الخالية من البروتيين الفعّال فجاءت نتيجة عدوانه على كلّ من اليمن وسورية والعراق مزيداً من التصعيد عوضاً عن بعض الردع. وليست ضرباته أكثر من رفسة حمار في سباقه الانتخابي المحموم مع فيل ضخم مذعور. فهل سمعتم يوماً أنّ صفحات المؤرّخين احتوت في متنها أو في هامشها حديث رفسة الحمار؟
يحدّثنا التاريخ بمكره وحكمته انّ الحروب وتكلفتها الباهظة لعبت دوراً هاماً في سقوط الكثير من القوى العظمى، منذ روما ثم الإمبراطورية العثمانية وصولاً الى إمبراطورية بريطانيا وفرنسا عندما انهارت لتفسح المجال وتسلّم المشعل للولايات المتحدة الأميركية التي تُعرّف كدولة ولكنها تتصرف كإمبراطورية عظمى.
هذه الإمبراطورية ترزح الآن تحت وطأة اضطرابات اجتماعية وصراعات داخلية وتراجع اقتصادي داخلي وخارجي وتنامي قوى اقتصادية عالمية تمكنت من اللحاق بها وتقول كلّ المؤشرات إنها سوف تتجاوزها في السنوات القليلة المقبلة، هذا فضلاً عن السقوط الأخلاقي والقيمي الذي جعلها تنحدر من القمة عندما تهاوى تمثال حرّيتها وتكسّر، أخيراً وليس آخراً هزيمة ميدانية بائنة لا لبس فيها.
كلّ هذه العوامل منفصلة ومتّصلة تجعلنا نُصدّق ونُبشّر بنبوءة بول كيندي التي جاءت في كتابه «صعود وسقوط القوى العظمى» والذي طرح فيه، بصيغة التنبّؤ الصارم، فكرة تراجع الولايات المتحدة الأميركية وتناول فيه نظرية «التمدّد الزائد»overstretch) ) أيّ التوسع خارجياً لدرجة يصبح معها من المحال إدارة هذا التمدّد لتبدأ بعدها رحلة التراجع ويحدث الانهيار.
الديناميكيات الإقليمية والعالمية الحالية تجعل من الصعب للغاية على واشنطن أن تواصل لعب الدور المهيمن وقد أصيبت الآن بالشلل التكتيكي بسبب إراقة الدماء المروّعة في غزة، وقد تنزلق إلى مزيد من الأزمات والصراع.
«الشرق الأوسط» يقف الآن أمام لحظة حساب، حساب دم وليس حساب سياسة، وسياق حسم، ويتعيّن على الدول الرائدة فيه، أن تغتنم الفرصة لتعزيز التقارب والتشبيك الذي سبق غزة ويمكنها البدء في بناء مستقبل مختلف عن الماضي التعيس، الهيمنة الأميركية في طريقها إلى الاضمحلال، ليس بسبب تدهورها وتآكلها من الداخل فحسب، بل بسبب «نهوض البقية»، المحور الذي تطوّر اقتصادياً وعسكرياً والأهم معنوياً. ولا يجب أن يلهينا الاستغراق في لذة التساؤل عن الانهيار الحتمي للإمبراطوريّة الأميركية عن هذا الاستحقاق الذي عُمّد بدماء آلاف الأبرياء والشهداء والذي يتوجب علينا الاستجابة له بما يليق بهذه الدماء…

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى