مقالات وآراء

حرب استراتيجية…

‬ مأمون ملاعب

هي حرب استراتيجية بالفعل، حرب يشترك فيها كيان العدو والولايات المتحدة وبريطانيا ومن خلفهم كلّ الأطلسي من جهة، تقابلهم حركات المقاومة في كلّ من فلسطين ولبنان والعراق والشام، بالإضافة إلى حركة أنصار الله في اليمن وجيش اليمن وتدعمهم إيران. تشتعل الحرب على جبهات عدة في غزة وشمال فلسطين وعلى القواعد الأميركية في كلّ من العراق وسورية والأردن وفي البحر الأحمر والمتوسط فهي حرب ذات أبعاد كبيرة واستراتيجية.
قرن مرّ على الحرب العالمية الأولى وحوالي ثمانين عاماً على الثانية، لكن العالم أجمع ما زال يعيش تحت تأثير نتائجهما خصوصاً أنّ المنتصر واحد في كلتيهما. بعد نهاية الحرب العالمية الأولى اقتصر النفوذ الاستعماري على بريطانيا وفرنسا، أما بعد الحرب العالمية الثانية وحيث أنّ أوروبا كانت منهكة ومدمّرة فقد ورثت الولايات المتحدة النفوذ الاستعماري والاقتصادي ومن ثم السياسي. مع أنّ العالم حوى معسكرين متضادّين فإنّ حلف وارسو كان بلا فعالية اقتصادية ومع انهيار الاتحاد السوفياتي انهار الحلف وانتهت الحرب الباردة إلى فوز كبير للغرب الذي لم يكتف بذلك بل انتقل الى الهجوم على خصمه القديم فضمّ دول شرق أوروبا إلى الحلف الاطلسي بل ضمّ دولاً كانت محايدة لفترة طويلة ودولاً كانت ضمن الجمهوريات السوفياتية.
وضع منطقتنا الحالي هو استمرار لنتائج الحرب العالمية الأولى والتي عادت وتكرّست بعد الثانية.. دول استحدثت للمرة الأولى في التاريخ بحدودها وأنظمتها (جمهورية مثل فرنسا وملكية مثل بريطانيا)، أعطى كيليكيا والأقاليم الشمالية السورية لتركيا (مؤتمر لوزان) ثم أعطاها لواء الاسكندرون أواخر الثلاثينيات…
الخريطة السياسية لبلاد الشام وما حولها تشكل مشروعاً واحداً هدف إلى إقامة كيان العدو وتأمين استمراريته. عام 2006 وخلال حرب تموز تحدّثت الإدارة الأميركية على لسان وزيرة الخارجية آنذاك عن شرق أوسط جديد دون تحديد معالمه. كان التوقع عندهم كما أمنيتهم، انتصاراً كبيراً للعدو على المقاومة مما سيجعلهم يفرضون إرادتهم ونفترض أنها زيادة في التفتيت، تماماً مثل ما جرّبوه في العراق. فشل (إسرائيل) في حربها عام 2006 حافظ على خريطة المنطقة. لكن الولايات المتحدة والغرب عادوا إلى ذلك في محاولة جديدة كبيرة عبر ما سُمّي الربيع العربي، دمروا ليبيا وفتتوها وما زالوا ودمروا اليمن وأعادوا تقسيمه ثم أقاموا حرباً عليه. قسموا السودان واليوم يعملون على تفتيته، لكن الغاية الأساسية لهم كانت في سورية، استكمالاً لما أرادوه في 2006، إلغاء أي تهديد ضد (إسرائيل) عبر إسقاط الدولة وتفتيت الشعب. نجحت خطة الولايات المتحدة في العراق نسبياً. أقامت كانتوناً كردياً مستقلاً إلى حدّ بعيد، ليس بالضرورة أن يكون دولة معترفاً بها، لكنه دولة إلى حدّ كبير ويقيم علاقات مع العدو الصهيوني ومراكز الموساد منتشرة فيه كما أنه يقوم بالإساءة لكلّ من العراق وإيران أحياناً. في المقابل لم تنجح بإسقاط الدولة السورية رغم رعايتها ودعمها الكامل للإرهاب، لكنها نجحت بتقليص الدور السوري عربياً وتقليص دورها المحوري كما نجحت في الاستثمار في الأكراد أيضاً.
لقد شكلت الحرب على العراق بداية ومن ثم الحرب على سورية بوابة التمركز الأميركي المباشر فيهما.
نستطيع القول إنّ منطقتنا تعيش حالة حرب منذ الحرب العالمية الأولى لكن بمعارك متقطعة متباعدة أحياناً إنما منذ 1973 لم تشهد استقراراً كلياً. لقد نجح الاستعمار الغربي متحالفاً مع الصهيونية بإقامة دولة لليهود، لكنه خلق بذلك «قضية فلسطين» التي ما لبثت أن تحوّلت إلى قضية العرب الأولى، وانّ بعض القادة العرب كانوا في السر عملاء الصهيونية لكنهم في العلن كانوا يجاهرون عكس ذلك. المشروع كان توسعياً مع الوقت حيث إنّ اليهود يؤمنون بأنّ دولتهم هي من الفرات إلى النيل، وتكمن الصعوبة بأنّ المنطقة كلها مأهولة، وبذلك يحتاج المشروع إلى التدرّج وكانت الخطوة الثانية في حزيران 67. في المقابل كان الكيان غدة سرطانية لا يمكن قبولها. طوال الوقت كان العدو مهاجماً، في المعارك (باستثناء حرب تشرين) في المؤامرات، في كي الوعي، في الاستخبارات، في حين أن شعبنا كان في وضعية الدفاع في المواقع التي أتيحت له. قتالاً أو في وجه المؤامرات. في خطة التفتيت المستمر كانت الولايات المتحدة تريد تغيير حدود الكيانات القائمة بخلق دويلات أصغر وبطابع طائفي أو اتني، في المقابل فإن المقاومتين اللبنانية والعراقية كانتا تدافعان في الشام لصدّ المؤامرة التي تستهدف الجميع. تدّعي الولايات المتحدة مباشرة او عبر أتباعها بعدم مشروعية تمركز المقاومة اللبنانية في الشام بينما تسمح لنفسها بذلك. تعلن عن قدسية الحدود منعاً لوحدة شعبنا بينما تنتهك هي الحدود في دعم الفتنة أو العدو.
الحرب القائمة حالياً وضعت معطيات جديدة وفتحت الملفات الاستراتيجية.
أولاً أن المبادر للهجوم هو المقاومة الفلسطينية، حتى ولو عاد العدو وقام بعدوان كبير على غزة فذلك لا يغيّر هذه النقطة، وان أهداف الهجوم قد تحققت في حين أن أهداف العدوان لم تتحقق.
ثانياً أن العملية السياسية خلال الحرب وما بعدها لا يمكن أن تقتصر على تبادل ووقف الحرب ولا حتى مع إعادة إعمار، بل فتحت النقاش على ما بعد الحرب، لذلك كانت التصريحات الأميركية والأوروبية عن دولة فلسطينية على سبيل المثال. وهذا ما يعني ليس مستقبل الشعب الفلسطيني فحسب بل مستقبل كيان العدو أيضاً…
ثالثاً فتحت جبهات على العدو وعلى الأميركي تحت عنوان واضح: مساندة الشعب الفلسطيني وهذا يعني تحطيم كلّ الجهد الغربي والصهيوني باستفراد الشعب الفلسطيني من خلال التقسيم والعمل على تحطيم آماله وإحباطه للتخلي عن قضيته. كما يعني إعادة «قضية فلسطين» إلى موقعها الطبيعي في وجدان شعبنا مما نسف محاولات التطبيع وأسقط كلّ جهود جعل الكيان «طبيعياً» في محيطه.
رابعاً تحرير جنوب لبنان وغزة وحرب تموز ضرب المشروع التوسعي الصهيوني في الصميم فباتت (إسرائيل) تبحث عن البقاء والاستمرار والتفوق في محيطها. هذه الحرب أسقطت المشروع برمته لأنّ الكيان أصبح خارج الأمان، لا طمأنينة في هذا التجمع الشاذ. اما تطرف المتدينين المتشددين فيهدد الكيان بالانقسام الداخلي. لم يعد بإمكان العدو التفكير بإنهاء قضية فلسطين ومجرد التفكير بالتنازل هو العد العكسي للزوال
في النتائج والاحتمالات.
اولا التدخل العسكري الأميركي في الحرب أوصله إلى مفترق صعب. طرح مسألة انسحابه من سورية والعراق وهو يناور في هذا الطرح ويحاول الخداع من أجل تخفيف عمل المقاومة عليه. الأميركي يعلم جيدا أن انسحابه مهزوماً سيجلب الويل على كل اتباعه بدءاً من الأكراد والدواعش ونهاية كلّ مشاريعه الدنيئة، يطرح انسحاباً تكتيكياً وسيحاول جاهداً الحفاظ على من يخدمون مخططاته، إنما حتى في هذا الأمر، فإنّ الدولة في سورية ستسعيد قوتها الاقتصادية اولاً ثم السياسية والعسكرية. وفي كلتا الحالتين فإنّ الخطر الكبير يبقى على كيان العدو، لذلك هو يناور ولا يعرف كيف يقود الحرب، لا يريد أن تتوسع ولا يريد أن تتوقف على وضعية اليوم. كذلك حال العدو، أنها المرة الأولى في تاريخه يدفع هذا الكمّ من الخسائر، من القتلى والمصابين من جنوده وجيشه عمود الكيان. هذا الجيش الذي فقد سمعته تجاه المستوطنين أنفسهم حين لم يحقق لهم نصراً بل إنه أنهك وضعف. تحمّل العدو، على عكس المعتاد، كلّ هذه الخسائر لأنه يدرك أنّ المعركة أصبحت معركة وجود والخسائر رغم فداحتها أسهل عليه من الزوال. أفق الحرب ما زال غامضاً فهي ممكن أن تستمرّ وتستعر في المنطقة في محاولة أخيرة للبقاء مقابل دفع الأثمان لكنها مغامرة كبيرة يرفضها الأميركي. وهي ممكن أن تتوقف، وهذا ما تسعى إليه الولايات المتحدة في محاولات عديدة تسعى فيها لإخراج الكيان بماء الوجه. عشرات الصيغ طرحت وسقطت، ذلك أن المقاومة تشترط ما يؤلم العدو ويجعله مهزوماً في كلّ المقاييس.
حرب لم ترقَ لتكون عالمية بعد، لكنها استراتيجية لكونها تغيّر وجه المنطقة وتسقط الولايات المتحدة من عرش الزعامة وفرض القرارات على الشعوب وتضع مستقبل دول عديدة على المحك…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى