المنطقة بين الاشتعال والتسخين المتدرج
د. حسن أحمد حسن*
تغصّ مواقع التواصل الاجتماعي بالأخبار والروايات المتعددة التي تحمل في طياتها قدراً كبيراً من التهويل والتخويف، وللأسف… تعميم حالة من الإحباط واليأس وإنْ كان بعضها غير مقصود، لكن ثقافة القص واللصق وإعادة النشر من دون ذكر المصدر ساعدت على انتشار هذه الظاهرة التي قد تحمل في مضامينها أخطاراً وتحديات تواجه أحد أهمّ عوامل القوة النوعيّة لدى من يتبنون نهج المقاومة واستراتيجيتها في الرصد والقراءة السليمة والردّ بما يتناسب وكل مفرز من مفرزات هذه الحرب المركبة التي لا تستثني أحداً من شرورها وأخطارها، ولم يتوقف الأمر عند الحالات الفردية عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة بل امتدّت إلى الغروبات والمجموعات الأكثر مهنية ووعياً، وبعضها مكرّس للحوار والتحليل وتقديم الدراسات التي يمكن أن يُبنى عليها، فتعميم ما يتمّ تسويقه بلبوس الاستراتيجيا من دون التدقيق بالمضمون يساعد المحبطين واليائسين والمتردّدين وغيرهم ـــ من حيث يدرون أو لا يدرون ــــ على تقديم خدمة مجانية لأصحاب مشروع تفتيت المنطقة وإعادة بسط الهيمنة عليها انطلاقاً من كونها ضمن قلب العالم “الهارتلند” وفق النظريات الجيوبوليتكية. وقد يكون السبب في ركوب مثل هذه الموجة لا يتجاوز الفضول لمعرفة حقيقة ما يجري، والرغبة بقراءة معالم المستقبل القريب ولو بشكل تقريبي. والمتابع لتطور الأحداث وتداعياتها لا يحتاج إلى كبير عناء ليكتشف كم هو التهويل في بعض الدراسات والتحليلات التي تجزم بأنّ الكيان الصهيوني يضع اللمسات الأخيرة لعملية واسعة لاحتياج جنوب لبنان بعمق لا يقل عن /7كم/ وقد يمتد حتى/10كم/، ويتمّ استعراض أسماء الفرق العسكرية والألوية وبقية صنوف الأسلحة التي تمّ تحشيدها وهي تنتظر الساعة الصفر. مع التذكير بالجبروت العسكري الأميركي الذي سيعيد اجتياح المنطقة كاملة وإعادة إخضاعها لسيطرته ومشيئته، والغمز من قناة أقطاب محور المقاومة، وقدراتها وإمكانياتها التي لا تتجاوز في دلالاتها حدود محاولة رفع الروح المعنوية وفق ما يراه من كتبوا تلك المقالات والدراسات وعملوا على تعميمها ونشرها على أوسع نطاق، وكي لا تبقى مقاربة الأمر تأخذ الطابع العام أتوقف عند عدد من الأفكار والنقاط التي أراها مهمة، ومنها:
*أهمية التمييز بين اجتياح إسرائيلي وشيك لجنوب لبنان ـــ كما يتمّ الترويج له ـــ وبين اعتداء أميركي مضبوط الإيقاع بذريعة الردّ على الصفعة المؤلمة التي تلقتها القاعدة العسكرية الأميركية في الأردن والتي أدّت إلى تحييد ما يقارب أربعين جندياً أميركياً بين قتيل وجريح وفق الاعترافات الرسميّة للبنتاغون.
*عندما تنقل الصحافة الأميركية عن بايدن شخصياً حرصه على منع اتساع نطاق الصراع في المنطقة، وقوله: (لا أعتقد أننا بحاجة إلى حرب أوسع في الشرق الأوسط… هذا ليس ما أبحث عنه). فمضمون القول يعني أنّ السكوت على الصفعة التي تلقاها الأميركيّون يهدّد بتسارع تآكل ما تبقى من هيبة وقوة ردع، ولا مخرج لتفادي ذلك إلا باتخاذ القرار لتنفيذ ضربة أو ضربات محدودة ومضبوطة الإيقاع على أهداف محددة في سورية أو العراق أو خارجهما، وهذا ما حدث، لكن حتى في هذه الحالة من المهمّ الانطلاق من حضور مقياس الشدّة والردّ المتوقع ضمن خريطة العمليات العسكرية الأميركية، وقد يتمّ صرف النظر عن الموضوع بالاتكاء على الموقف المعلن من إحدى فصائل المقاومة العراقية التي أعلنت تعليق العمليات ضد القوات الأميركية، وإبقائها مفتوحة لنصرة فلسطين، لأنّ الفصائل التي أعلنت استمرار العمليات أبقت السقف مرفوعاً والباب مفتوحاً على شتى السناريوات، بما فيها التصعيد المتدرّج أو الشامل.
*من المهمّ استحضار الوضع الخطير المستجد في الولايات المتحدة الأميركيّة، وتحدّي ولاية تكساس لإدارة بايدن وإصرارها على تنفيذ الإجراءات الذاتية الخاصة بضمان حدودها، وتزامن ذلك بإعلان عدد من الجمهوريين الذين يحكمون ولايات أميركية أخرى مساندتهم لموقف حاكم تكساس، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ العام الحالي هو موعد الانتخابات الأميركية، فهل منطلقات التفكير الاستراتيجي تشير في ظلّ هذه الظروف والمستجدات إلى جنوح واشنطن باتجاه إشعال حروب جديدة، أم العكس؟
*التهويل باستكمال ما يلزم لبدء توغل بري إسرائيلي في الجنوب اللبناني نظراً لاستحالة قبول حكومة نتنياهو بالتداعيات الكارثية التي خلفتها ملحمة طوفان الأقصى. وهذا لا ينفصل عن التداعيات المستجدة التي تركت ظلالها الواضحة على كلّ المنطقة، بل وعلى توازن القوى وقواعد الاشتباك الجديدة عسكرياً واقتصادياً ودبلوماسياً على الساحتين الإقليمية والدولية، ومن المفيد الإشارة هنا إلى بعض العناوين والأفكار التي تساعد في تخفيف الضبابية عن صورة الواقع الجديد الذي يتشكل، ومنها:
ـ قسم كبير مما يتمّ تسويقه عبر وسائل الإعلام الكبرى عالمياً يندرج ضمن الحرب النفسية الممنهجة لتحقيق مبدأ الانتصار بالرعب. وبالتالي بلوغ المطلوب بالتهديد من دون الحاجة لخوض أعمال قتالية.
ـ صحيح أنّ نتنياهو لا يستطيع وقف عدوانه الوحشي ما لم تتمكن تل أبيب من تسويق صورة انتصار، وصحيح أيضاً أنّ إمكانية الحصول على صورة انتصار شبه منتفاة، وبالتالي ستبقى المنطقة مشتعلة من دون انفجار. وهنا يجب التذكير بأنّ أحد أهداف التصعيد الأميركي في منطقة الحدود السورية ـ العراقية مكرّس لتحويل الأنظار عن المستوى غير المسبوق من إخفاق جيش الاحتلال الصهيوني، وتعثره والعجز عن فرض وقائع جديدة على اللوحة الميدانية في قطاع غزة، إضافة لمحاولة تغطية ما يمكن من جرائمه ووحشيته وشدّ الأنظار باتجاه العدوان الأميركي وتداعياته المتوقعة.
ـ أليس من الطبيعي طرح التساؤل المشروع المتضمّن: إذا كان جيش الكيان وهو بقمة جاهزيته وراحته وبدعم أميركا والناتو عاجزاً بعد أكثر من أربعة أشهر عن اقتحام غزة المحاصرة منذ عقود، فهل يستطيع التوغل 7 كم أو أقلّ أو أكثر في جنوب لبنان؟ وهل تسويق صورة وردية كهذه عن قدرة الجيش المأزوم والمتضعضع من غزة تصبّ في خانة التهويل المفضوح أم لا؟
ـ بكلّ تأكيد لا يحتاج نتنياهو وحكومته العنصرية لأية ذريعة جديدة لتوسيع الحرب لو كانت النتيجة مضمونة أو يحتمل ضمانها، وكذلك إدارة بايدن لو توفرت لديها القدرة على تحمل التكلفة التقريبية المتوقعة لتوسع ألسنة اللهب لكانت اتخذت القرار. وهذا لا يقلل من الجبروت العسكري الأميركي والإسرائيلي، فما تملكه واشنطن وتل أبيب يفوق الوصف من أسلحة التدمير الشامل، لكن هذه الحقيقة لا تلغي حقيقة أخرى على النقيض منها، فكلّ معطيات الواقع تؤكد أنّ حزب الله بخاصة، ومحور المقاومة بعامة، لديهم ما يؤلم أصحاب الرؤوس الحامية، والفاتورة الحتمية المطلوب دفعها أميركياً وإسرائيلياً أكبر بكثير من التوقعات، ويدرك صناع القرار الأميركي أنها فوق طاقة واشنطن وتل أبيب.
ـ معطيات الواقع القائم استناداً لمقاييس القدرة الجيوبوليتكية الفعلية التي يمكن البناء عليها تشير إلى أنّ زمن العربدة والغطرسة يقترب من نهايته، وخسائر أميركا من النتائج التي تبلورت حتى الآن من ملحمة طوفان الأقصى تفوق خسائر “إسرائيل”، وهي مرشحة لأن تتضاعف لدى الطرفين إذا بقيت الأمور على ما هي عليه، أما في حال توسّعت دائرة الحرب فستتضاعف عشرات المرات.
ـ نعم قد يستطيعون تحويل كلّ الجنوب اللبناني الى أرض محروقة، كما فعلوا في غزة، لكن ليس قبل ان يتحوّل كيان الاحتلال من أقصى جنوبه إلى أقصى شماله إلى كرة بلاستيكية تشتعل ويزداد اشتعالها أواراً بعاملين جوهريين: داخلي كفيل بالتشظية والتفتيت والتآكل الذاتي، وخارجي محكوم بالانتحار الحتمي. وفي أحسن الأحوال التحوّل الى كيان مشلول غير قابل لاستمرارية الحياة. وهذا ما لا يستطيع بايدن ونتنياهو تحمّل مسؤولية اعتماد خطوات تصعيدية تدفع باتجاه واقع كهذا، وإلا لما تردّدا لحظة واحدة عن توسيع دائرة الحرب.
ـ مراكز الدراسات الاستراتيجية وما يوصف بوسائل الإعلام والمصادر المقرّبة جزء من الحرب، والتصدي لحملات التضليل والإحباط والتيئيس مسؤولية النخب الإعلامية والفكرية والثقافية كل من موقعه ومكان إقامته، ولا يتطلّب الأمر أكثر من توضيح الحقائق التي فرضها حزب الله على الأرض، وإطلالة سريعة على ما يتمّ تداوله في الإعلام الإسرائيلي كفيلة بتوضيح حقيقة الرعب الذي يعيشه كيان الاحتلال بمستوطنيه وجيشه وزعاماته السياسية والعسكرية واعتراف الجميع بأنّ حزب الله هزمهم ثلاث مرات آخرها إرغامهم على إخلاء كامل شمال فلسطين المحتلة من المستوطنين. وهذا يعني أنّ حزب الله دخل إلى تلك المستوطنات جميعها من دون الحاجة للزجّ بمقاوم واحد على الأرض لاقتحامها ـــ وفق ما نشره الإعلام الإسرائيلي ـــ لأنّ مستوطنيها يستوطنهم الخوف والذعر والهلع، وهو ما دفعهم إلى الفرار بشكل مسبق.
ـ موضوعياً يدرك عشاق المقاومة أنّ الضريبة كبيرة وغالية على الجميع. وجميع أقطاب محور المقاومة بكلّ تأكيد سيتضرّرون كثيراً، لكنها الضريبة التي لا يمكن تجنبها ولا تفاديها، فحتى لو تمّ إعلان الخضوع والإذعان اليوم لِما يريده نتنياهو ــ وهذا حلم إبليس بالجنة ـــ فلن يتمّ الاكتفاء بذلك، ولذا لا خيار إلا الاستمرار بالمواجهة. وما يستطيع الأعداء فعله اليوم قد لا يستطيعونه غداً، فالوقت ليس في صالحهم.
خلاصة
الحديث عن توسع الحرب أو توسيعها أمرٌ، وإمكانية الذهاب بهذا السيناريو وتنفيذه أمرٌ آخر. والمحاكمة الموضوعية المستندة إلى أبسط منطلقات التحليل المنطقي تشير إلى أنّ الأوضاع مرشّحة لمزيد من التسخين المتدرّج ومضبوط الإيقاع، وليس إلى الاشتعال، وقد يكون من المفيد تذكير القانطين وأشباههم بأنّ المتغيّر الجيوبوليتكي النوعي الذي فرضه اليمن المقاوم أبعد بكثير مما يخطر بذهن المتابع العادي لتطور الأحداث وتداعياتها، ويخطئ من يسقط من حساباته أنّ موسكو وبكين لا تريان ما يجري، ولا يعنيهما، فهما تتابعان باستمتاع، وقد تكون لديهما رغبة وشوق لرؤية المزيد من الغطرسة الأميركية شريطة أن يكون عنوانها تهوّراً جديداً تقدم عليه تل أبيب بدعم ومشاركة من واشنطن وحلفائها. وهذا يعني الغرق الأميركي الحتمي أكثر فأكثر في مياه المنطقة ورمالها، وفي جميع الأحوال انشغال واشنطن وحلفائها بالتداعيات بعيداً عن الحدائق الخلفية التي تهدّد الأمن القومي الروسي والصيني بآنٍ معاً.
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية