الثورة الإيرانية: دلالات وعبر
نوال عباسي
يمثل إحياء الذكرى الخامسة والأربعين للثورة الإيرانية في هذا المنعرج الاستراتيجي الذي تشهده الأمة فرصة لاستخلاص الدروس والعِبر وعدم الاكتفاء بمجرد سرد الأحداث على طريقة الحكواتية العالقين في أحد كهوف التاريخ.
الثورة الإيرانية يعتبرها كثيرون على أنها ثالث أبرز الثورات في التاريخ الحديث بعد الثورة الفرنسية عام 1789 (أول ثورة ليبرالية) والثورة البلشفية في روسيا عام 1917 (أول ثورة شيوعية في القرن العشرين). وبمرور الزمن ووضوح الرؤية أصبح الكثير من المفكرين والمؤرّخين يعتبرون الثورة الفرنسية والثورة البلشفية مؤامرة على فرنسا الكاثوليكية وعلى روسيا الاورثوذكسية كما أشار الى ذلك الرئيس بوتين في أكثر من مناسبة. واذا كنا لا نعتبر انّ التاريخ مؤامرة ولا ننكر أنّ المؤامرة جزء من التاريخ فيمكن القول إنّ الثورة الايرانية هي أيضاً مؤامرة حميدة جاءت مدجّجة بالعفوية الثورية ضدّ الهيمنة الصهيوأميركية على المنطقة. انقلاب استراتيجي وإعصار هبّ فجأة ليعكّر صفو الشرق المستكين .
هذه الثورة التي استغرقت سنوات لتنضج وتراكم الخبرة والمعرفة، انطلاقاً من حركة القائد القومي مصدق السيادية والذي أرسى أولى قواعد تأميم الثروة الوطنية مروراً بمحاضرات وفكر المعلم الثوري علي شريعتي الذي لم يكن حاله كحال أغلب نخبنا العربية، أيّ مجرد مقلّد للغرب، فقد خرج من جلباب الاغتراب نحو» الاستغراب» حيث لم يقم باجترار أطروحات اليسار الماركسي بل فتح بصيرة مريديه على يسار متأصّل في ثقافتنا، يسار علي وأبي ذر الغفاري وصولاً الى طريقة المرشد الأعلى في التوليف بين الحداثة والدين ليس دين الكهنوت واهبي الجنة والارتماء في أحضان المذاهب المنحرفة التي تخدم أجندات الأعداء المتربّصين بل دين فطريّة منطق المقاومة.
من القائد القومي إلى المعلّم اليساري إلى المرشد الديني نجحت الثورة الإيرانية، بل وتفرّدت، في إرساء نموذج للمصالحة بين الجمهورية الديمقراطية والحكم التيوقراطي، بين قيم الحداثة وأصالة الهوية، بين اليسار واليمين، بين القومي والإسلامي، بين كلّ هذه الأطروحات التي كانت وما زالت تمثل بالنسبة لنا عوامل وأسباب تناحر وتنافر ولكنها كانت وقوداً مكّن إيران من بناء نظام سياسي متميّز يختلف هيكلياً عن الأنظمة السياسية الأخرى، إقليمياً ودولياً، بحيث باتت له هوية خاصة.
ولعلّ هذا ما جعل إيران تتمكن من مواجهة وتجاوز تحديات كبيرة وخطيرة طيلة العقود التي مضت ومن البقاء والصمود، وأكثر من ذلك، التحول الى قوة فاعلة ومؤثرة ليس في محيطها الإقليمي فحسب، وإنما في موازين القوى الدولي.
إضافة إلى هذا النظام الفريد في الحكم وإضافة إلى خصوصية المجتمع الإيراني بمكن أن نردّ نجاح الثورة الإيرانية وصمودها إلى ثلاث عوامل رئيسية:
ـ أولاً: مصداقية الشعارات، فهي ليست مجرد شعارات ممتلئة بالفراغ ومتعمّقة في السطحية أو مجرد عناوين لقوالب فكرية معلّبة منتهية الصلاحية ومستوردة من الغرب، بل هي ثوابت وطنية ودينية أفرزتها التجربة وتمّ تنزيلها على أرض الواقع وكانت البوصلة التي توجّه الممارسة السياسية.
ـ ثانياً: اعتناق روح الثورة ومنطق الدولة، تعزيز ثنائية الثورة والدولة والأهمّ الفصل بين مؤسساتهما، وفي كلّ مناسبةٍ كان تيار «الثورة» يفرض إيقاعه على تيار «الدولة»، لأنَّ مشروعية «الثورة» مقدمةٌ على شرعية «الدولة»، وهي مشروعية ساهمت في ترسيخها مواد الدستور الإيراني التي اعتبرت أنَّ مهمة الدولة تتمثل في استمرار الثورة الإسلامية. هذه الثنائية أوجدت مؤسسات ثورية مستقلة يعتمد الانتماء إليها والارتقاء في هياكلها على معايير مغايرة تماماً لتلك الخاضعة لحسابات السياسة وتطلعات السلطة مما جعلها عصيّة على الاختراق والتطويع.
ـ ثالثاً: قامت الثورة الإيرانية منذ البداية بتعريف المستعمر كمستعمر ووصفته بالشيطان الأكبر وكان ذلك منذ الإرهاصات الأولى حيث أصدر الخميني فتواه بتحريم العلاقة بين العالم الإسلامي والكيان الصهيوني سنة 1967 وتواصل ذلك بعد نجاح الثورة ليؤكد أنّ فلسطين قضية محور الصراع، وهي في قلب إيران الثورة، وستبقى ثابتة راسخة بعيداً عن أيّ حسابات سياسية أو طائفية مذهبية أو عقائدية أو ايديولوجية وخاب السعي الذي قام به، وما زال، الحلف الغربي – الصهيوني لتحييد النخب عن القضية الأمّ.
عقل الثورة الإيرانية استوعب في وقت وجيز بعد إجهاض ثورة مصدّق أنّ الغرب الصهيوني عدو لكلّ مشروع سيادي نهضوي في المنطقة فجعل طرده أوّل خطواته ومقاومته أهمّ أولوياته.
كان المفكر مالك بن نبي يؤكد على أنّ الاصلاح والتجدّد الحضاري لا يتحقق إلا بتخليص الإنسان من رواسب القابلية للاستعمار، وبالتالي فالدعوة إلى أيّ فعل آخر مهما كان مقدساً كمن يدعو إلى الصلاة والبيت يحترق، ليس نباهة بل استحمار كما يقول شريعتي.
فهل سوف نستوعب الدروس ونستخلص العبر من روح الثورة ومنطق السياسة امّ أننا سنبقى نتدحرج من تعثّر الى انتكاسة.