شكرا إيران
ناصر قنديل
– عندما انتصرت الثورة الإسلامية في إيران قبل 45 سنة، كان الإبهار الذي قدّمته بتقديمها جديدين كبيرين: الأول نجاحها كثورة شعبية سلمية في الانتصار على أعتى أنظمة القمع الدموي في منطقة هي الأشد حساسية وتعقيداً في العالم، مقدمة المثال لشعوب المنطقة في القدرة على الفوز على نظام شديد القسوة والقوة في معركة مواجهة يخوضها الشعب دون الحاجة لاستخدام القوة. والثاني هو تقديم نموذج جديد لرجل الدين العالم والقائد الشعبي والسياسي والاستراتيجي، النافذ البصيرة والواضح الرؤية والممتلك تصورات وافية عن السياسات الدولية والإقليمية وعن الاقتصاد والسياسة والجيوش والحروب والقضايا، بمثل ما يمتلك من عمق فهمه للشؤون الدينية، ونجاحه بالربط بين الفهمين، بحيث يمثل فهمه كقائد سياسيّ ترجمة للفهم الديني، وترتبط دعوته الدينية بالدعوة لمفاهيم جديدة في السياسة.
– راهن الكثيرون بعد انتصار الثورة على ظهور عوامل تفقد الثورة وهجها، وترفع منسوب الأزمات والتحديات المستعصية أمامها، وتفقد شعبيتها داخل إيران، بسبب عجزها عن حل مشاكل عصرية لا تجيب عليها كتب سماوية نزلت قبل أكثر من ألف عام، واصطدامها بـ انقسامات مجتمعية أكثر عمقاً من أن يردم الهوة بين مكوناتها خطاب رومانسي عن وحدة الدين، وراهن آخرون على أن تأكل الدولة الثورة، وأن تتراجع الثورة بفعل ذلك عن الكثير من شعاراتها وخطاباتها الثورة، والتزاماتها بالقضايا، أسوة بما أصاب ثورات أخرى. وراهن آخرون على أن تحاصر إيران بعصبيات أشد فتكاً من اندفاعة الحماس لها، خصوصاً مع الحذر والقلق في المحيطين العربي والإسلامي مما مثلته من جديد وافد ومن نموذج مختلف وشعارات جريئة، وفي المحيطين العربي والإسلامي قدرات وأموال لرفع جدران التعصب المذهبي والقومي بوجهها.
– خلال الأعوام التي مضت تجاوزت إيران الإسلامية الكثير من الامتحانات والفخاخ، وكان أول الفتوحات العلمية لقياداتها المصالحة بين العلوم والدين، والانفتاح على أي منجز عصري سياسي وثقافي وعلمي يمكن تكريسه لخدمة الإنسان، فلا مشكلة مع الديمقراطية، والانتخابات، والحريات الإعلامية والسياسية، والتعددية. وبالمثل يجب توسيع نطاق الابتكار وتشجيع التنمية العلمية والإنجازات العملية في مختلف الحقول والملفات، من الطب إلى الهندسة إلى الذرة إلى العلوم السياسية والاستراتيجية وبناء القدرات العسكرية، فصارت دولة شعبية منفتحة على كل اجتهادات العلوم، ممتلئة القدرات ومتسارعة الخطى نحو مكانة الدول المتقدمة. وفي الشأن الاقتصادي بقيت الجمهورية الاسلامية الوليدة من الثورة مخلصة لمعيارين متوازيين، التنمية الاقتصادية وارتباطها بالتنمية الاجتماعية. فلا قيمة للأرقام عن نسب النمو وعن الناتج الوطني، ما لم تتربط بأمرين، الأول توفير أعلى مراتب الاكتفاء الذاتي الصناعي والزراعي والغذائي والتسليحي والتقني وصولاً الى الملف النووي. والثاني توسيع شبكات الخدمة الاجتماعية أفقياً عمودياً، أي استفادة المجتمع في مجالات تعميم التعليم والصحة والكهرباء والهاتف والسكن والمواصلات، بحيث يتمكن أفقر الناس من الحصول على أكبر قدر من الخدمات بأقل كلفة.
– بالتوازي رسمت القيادة الإيرانية منذ اليوم الأول لثورتها الإسلامية بقيادة الإمام الخميني، وواصلت خطاها باقتدار وشجاعة بقيادة الإمام الخامنئي، مساراً للإجابة عن سؤال العلاقة بين الوطني والإقليمي والدولي، فوضعت القضية الفلسطينية معياراً لخيار الاستقلال الوطني، ووضعت ثقلها بصدق وإخلاص لرفع مكانة هذه القضية، وتحويلها إلى محور جاذب لشعوب المنطقة وقواها السياسية وأساساً للاتفاق والاختلاف مع حكوماتها، وجعلت دعم مقاومة الشعوب خطاً ثابتاً لا حياد عنه في سياساتها وتنظيم استخدام مواردها، فنمت المقاومات وتعممت كخيار، واتسع نفوذها، وحققت الإنجازات والانتصارات. واحترمت إيران خصوصيات هوياتها الوطنية، وضوابط هذه الهويات، فزادت مكانة ايران بينها رفعة، ووضعت ثقلها لتحويل فكرة المقاومة الجامعة لهذه الحركات إلى أساس لتلاقيها كمحور واحد يقوم على احترام الخصوصيات الوطنية لمكوّناته، لكنه يستثمر على المشترك بينها، حتى تحولت فلسطين والمقاومة والمحور الى مفردات في السياسات الدولية، وصار محور المقاومة لاعباً محورياً في المنطقة. وها هو طوفان الأقصى يقلب العالم رأساً على عقب، وها هي فلسطين التي ظنّ الكثيرون أنها قضية منسية تفرض حضورها على العالم منذ 128 يوماً ولا تزال.
– حققت إيران استقرارها بفضل النظام الشعبي الذي قام على الانتخابات والتعدّدية ومساحة واسعة من الحريات، ونظام اقتصاديّ اجتماعيّ أمسك العصا من الوسط بين الطبقات الاجتماعية، وركز جهود التنمية على إيجاد فرص الاستثمار وفرص العمل معاً، وتقديم السلع والخدمات بأفضل الأسعار لأوسع فئات الشعب. وشكل الإسلام الهوية الجامعة للقوميات المتعددة التي ضمّتها الجمهورية الإسلامية، لكنها انتزعت مكانة مرموقة بين الدول بفضل صيانة استقلالها الوطني اقتصادياً وسياسياً وبناء قدرة عسكرية مهابة الجانب، وقدمت عبر مثال احتضانها لقضية فلسطين وقوى المقاومة نموذجاً فذاً لتغيير موازين القوى السياسية والميدانية في منطقة هي الأهم في العالم، لما تحتويه من عناصر استراتيجية، من مضائق وخطوط تجارة وموارد الطاقة وتقاطع خطوط التجارة العالمية.
– تغيّرت المنطقة، وتراجعت “إسرائيل” وأصيبت بالوهن، وتراجع وزن أميركا بفضل هذا التغيير، ونهضت روسيا والصين لأخذ مواقع ومواقف تشجعت عليها بفعل هذا التغيير. وكانت الحرب على سورية فرصة لتظهير كل ذلك، وفي طوفان الأقصى بدت أميركا و”إسرائيل” عاجزتين عن الحسم العسكري وعن المبادرة السياسية. وشكلت ايران ومحور المقاومة عنصر التوازن، وولدت معادلة جديدة في العالم بيضة القبان فيها منطقتنا، وقضيتها الأولى التي تهتف لها الشوارع قضيتنا.
– بعد 45 عاماً، شكراً إيران على النجاح والثبات والتغيير، فلولا إيران هذه، إيران الإمامين الخميني والخامنئي، لما كان كل هذا.