أولى

لماذا الخذلان يلازم القادة العرب؟

‭‬ محمود الهاشمي*

حين تقرأ أدبيات العرب وتاريخهم تجد أنهم أمة تزخر بالقيَم الرفيعة والأخلاق والسمو والرفعة والكبرياء، فهم الحماة لجارهم، وهم الكرماء لضيفهم، وهم الملبّون لمن يستغيث بهم…
فتحوا البلدان وعمّروها وأشاعوا قيَم السماء والأرض وعلّموا الشعوب الكثير من العلوم والمعارف، ونشروا الفضيلة بين أهل الأرض، أما في الشجاعة فيكفي وصف أحد ملوك الصين فيهم (لا قبل لنا بقوم لو توجّهوا إلى الجبال لهدّوها…)!
وحين انتخاهم أحد ملوك الصين لنجدته استجابوا وأعادوا له ملكه…
ترى ما الذي جعل (الخذلان) سمة لهم يتداولها الأعداء والأصدقاء… وكلما أثيرت القضية الفلسطينية أُصبنا بنكسة جديدة؟
فلا من ناصر أو معين سوى الله، حيث يعتدي الصهاينة على النساء العربيات والأطفال والشيوخ ويذبحون بالشوارع، والقادة العرب (جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) وما اجتمعوا إلا وخيّبوا ظنّ شعوبهم وخذلوهم.
وكلما دخلنا حرباً مع الصهاينة نخسر الحرب ونفقد الأرض والمقدّسات!
ثم نبدأ بشتيمة أنفسنا ونجلد ذاتنا ونكتب قصائد عصماء عن خذلاننا مثلما قال الشاعر محمود درويش…
(سقط القناع،
عربٌ أطاعوا رومهم
عربٌ وباعوا روحهم
عربٌ… وضاعوا).
وأقسى من ذلك قال نزار قباني ومظفر النواب وغيرهم حتى تشكل أدب خاص بالانتكاسات العربية يسمّى (أدب النكسة).
المشكلة أنّ دولنا تسمّى (عربية) وأغلبها تحمل هذا العنوان (الإمارات العربية)، (المملكة العربية السعودية) إلخ…
وهذه انتكاسة الأسماء أيضاً خاصة انّ هذه الدول والتي أحياناً يطلق عليها بـ (الحضن العربي) عنوان لـ (التخاذل) والانتكاسات العربية لم تبدأ بعد دخول المغول الى أراضي العرب منذ عام 1258م. فما فوق، وإنما منذ أن ترهّلت الدولة العباسية بحيث طرد المعتصم جميع قوى الشرطة والجيش من العرب وأبدلهم بالغلمان والخدم الذين اشتراهم من سوق النخاسين وجعلهم قادة جيش وحرب وشرطة فتولوا أمر الناس وهيمنوا على القرار وقتلوا أخاه المتوكل قتلة شنيعة ثم أمسكوا بالسلطة وهم من يقتل ويعيّن…
ثم حكمنا الفرس من البويهين والسلاجقة على مدى (300) عام متوالية وحكمونا وليس فيهم من يتكلم العربية.
فماذا بقي من الـ (524) سنة التي هي فترة الحكم العباسي؟
الفترة منذ سقوط بغداد وحتى انهيار الدولة العثمانية التي احتلت البلدان العربية جميعها وأخضعتها (400) سنة تحت الاحتلال المباشر تسمّى (الفترة المظلمة) وفيها عاشت الأمة في ظلام وجهل وأمية مفرطة.
الدعوات الإصلاحية التي عمّت الأمة خلال الأعوام الأخيرة من الاحتلال العثماني مجرد (صيحات) لم تستطع أن تنهض بالأمة بمشروع سياسي او اقتصادي ولم يشارك العرب بالنهضة التي شهدها العالم في (عصر البخار) والنهضة الصناعية في ما بعد إنما ظلّ (منبهراً) بتطور الآخرين والإعجاب بكلّ حركة وسكنة منهم، ليقع في مستنقع استعمارهم ونهب الثروات والاستلاب التاريخي.
حركات التحرر التي شهدتها الأمة العربية طردت الاستعمار، لكنها عجزت ان تصنع لنا تجربة سياسية او اقتصادية ونهضة علمية، فاستدار علينا الاستعمار الغربي وهيمن على ثرواتنا وجعلنا مستهلكين.
يقول أحد كبار المفكرين الغربيين (انّ أفضل دول يمكن ان تطبق عليها مخططات الغرب هم العرب، فقد يبالغون بالتطبيق أكثر من المخطِّط نفسه)!
منذ خروج الاستعمار من الدول العربية وليس هنالك من دولة واحدة يمكن ان نشير الى تجربتها بالبنان.. وبمجرد نظرة على دولنا العرببة الـ (20) نؤكد ما نقول…
دول الخليج تخلصت من مشكلة التفكير بصناعة قراراتها ومن تأسيس الجيوش الجرارة، فاكتفت بالمستشارين الأجانب ليفكروا نيابة عنها، كما اكتفت بالاتفاقيات الأمنية مع الغرب ليدافع عنها.
مقابل ذلك رضوا ان يكونوا تابعين لقرارات الغرب وتطلعاتهم وان يودعوا أموالهم في المصارف الغربية وانتهى الأمر.
دول الحزب الواحد والقائد الأوحد العربية أيضاً أفقدت الدولة حيويتها وغاب عنها المشروع لتعيش أيامها بلا هدف فيما تكلس الحزب الحاكم ليتحوّل الى النظام الوراثي.. هناك دول فقيرة تسلّلت إليها «إسرائيل» مثل جيبوتي وموريتانيا.
صمّمت أميركا دولاً عربية وفق النموذج الذي ترغب فحنطتها بأمراء وملوك خنقوا إرادة شعوبهم مثل الأردن والمغرب ثم دفعت بهم الى (التطبيع) مع «اسرائيل»، أما مصر فما زالت تتراجع بعد حرب حزيران حتى يسكن الآن (10) ملايين من مواطنيها في المقابر والعشوائيات وغرقت بالديون ووصل الفقر إلى نسبة 70%!
يوم صرّحت وزيرة خارجية الولايات المتحدة السابقة (كونداليزا رايس) بأنهم (سيصنعون دولاً ميتة) بقيت أتساءل كيف لأميركا أن تميت دولاً؟
استطاعت أميركا ان تغرق العالم بما يسمّى بـ(الثورات الملونة) التي سخرت فيها (قاع المدينة) من المناطق الفقيرة، أو ما يسمّونهم هم (رثاثة المجتمع) ليحرقوا دولهم بأيديهم لإضعافها كما في فرنسا وبريطانيا وأوكرانيا وطاجاكستان وغيرها، اما في الدول العربية فأسموها بـ (الربيع العربي) الذي حوّل دولنا العربية الى (دول ميتة) بحيث إنّ العراق يمتلك (مليون منتسب أمني) ولم يقو أن يدافع عن ممتلكات الدولة التي يحرقها الصبيان!
عندما جاءت أحداث (معركة الطوفان) في 7/10/2023 تكون الدول العربية في أشدّ بؤسها وتراجعها، ففيما تنتخي النساء والأطفال والشيوخ والمرضى أبناء الأمة لإنقاذهم من مجازر الصهاينة تنعقد القمم (العربية والإسلامية) وتصدر بياناً مجرد (رحى تطحن قروناً) وكان تعبيراً عن الإحباط والخذلان، رغم أنّ الظرف التاريخي لصالح الأمة لو أرادت حقاً أن تنهض!
والسؤال: لماذا هذا الضعف والهوان لدى القادة العرب؟
أنا أقول ليس الأمر معقوداً بـ (القادة) وإنما بالشعوب عموماً، فمثلاً من الذي أوْصل الأمر أن يكون الخيار بين أسوأ اثنين ليُكرَهوا على اختبار (الأقل سوءاً) وهو مصطفى الكاظمي في العراق والسيسي في مصر وقيس سعيّد في تونس إلخ…؟ لا شكّ في أنّ الذي ملأ الشارع بالاحتجاجات ورفع الرايات وساد الشارع وحرق المؤسسات وعطل الحياة هم شعوب الدول ذاتها ولم نشهد شخصاً أجنبياً بين المتظاهرين…
والسؤال: لماذا عطب الشعوب أيضاً؟
تعتبر مصر أكثر دولة عربية تنتج مبدعين وأكاديميين وأطباء ومفكرين وخبراء، ربما لأنّ المغول لم يدخلوا أراضيهم فشهدوا النهضة المبكرة التي قادها حاكم (شركسي) غير عربي و(أمي) لا يقرأ ولا يكتب هو (محمد علي باشا)!
في العالم الآن (83) ألف عالم مصري خارج مصر، يديرون أكبر المؤسسات العلمية والأكاديمية واخترعوا واكتشفوا وشاركوا بنهضة الدول الأخرى فيما بلدهم يغرق بالبؤس والفقر.
إذا قلنا إن ّالحكام العرب هم كما وصفهم نزار قباني (والعالم العربي إما نعجة مذبوحة أو حاكم قصّاب) فيكون (الضعف)
موزعاً بين الاثنين (شعب يُساق كما القطيع) وراعٍ لهذا القطيع (قصاب) يذبح بهم كما يشاء! وبذا لا يحق علينا لوم أحد. فالأردنيون يحاذون «إسرائيل» ولهم معهم حدود تصل الى (238) كيلو متراً، ويرون ويسمعون كلّ معاناة الشعب الفلسطيني وفيهم من الفلسطينيين ما يصل إلى 60‎%…
لكن نحن مقتنعون أنّ هذه الآلاف التي خرجت بالاحتجاجات لصالح أهالي غزة ونصرة المقاومة تعبت من الهتاف وعادت الى منازلها لتنام وكأنها أدّت الواجب الملقى عليها.
يبدو أنّ الأمة العربية بعدُ لم تصل عقول أبنائها الى مرحلة (صنع القرار) بنفسها، وأن المهاجرين من المبدعين من هولاء (الأبناء) نجحوا في عملهم لأن هناك (مَن يصنع القرار لهم) وهم يؤدّون عملهم وفق هذه القرارات (الأوامر)!
وفقاً لهذا علينا ان لا نعجب حين نشهد القادة العراقيين، لم يتوقفوا عن زيارة (السفيرة الأميركية) ـ مطلقاً ـ رغم النقد اللاذع والتهم التي يوجهها الشعب العراقي لهم، حيث يبدو أنهم يبحثون عمن (يصنع لهم القرار) لعدم تمكنهم منه…
هناك بصيص أمل بات ينمو في داخلي وأنا أرى أنّ (بريطانيا العظمى) يحكمها الهنود! ومثل ذلك في دول غربية أخرى. ترى هل سيعود الشرق ليكون حاكماً على الغرب؟ الإنجاز الكبير للمقاومة يمثل خزين الأمة ومستقبلها، كيف لنا ان نحافظ عليه…؟

*كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى